الإعدام… ممكن أم غير ممكن، تلك هي المسألة
الإعدام… ممكن أم غير ممكن، تلك هي المسألة
محمد أديب السلاوي
- في سنة 2007، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 104 مقابل 54 صوتا وامتناع 29 دولة عن التصويت، على دعوة أعضائها لوقف تنفيذ عقوبة الإعدام على أثر مسيرة طويلة تكاثفت خلالها مجهودات المنظمات غير الحكومية في مختلف أصقاع العالم، للدفع في اتجاه الإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام، وهو ما آشادت به منظمة العفو الدولية في حينه، وقالت في بيان لها أن “الإلغاء العالمي لعقوبة الإعدام أمر ممكن”، في حين علق التحالف العربي لمناهضة عقوبة الإعدام على هذا البيان، معتبرا أن ذلك”يسهم في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها ويعطي دفعة جديدة لتكاثف الجهود المبذولة دوليا وإقليميا، لمناهضة هذه العقوبة.
وقبل ذلك بعدة سنوات، جاءت الإشارة بهذا المعنى (سنة 1948) في مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي أكدت على حق الإنسان في الحياة، وهو ما أطلق الدعوات تباعا من أجل أن تكف الحكومات عن تطبيق عقوبة الإعدام، وهو أيضا، ما جسمه عمليا البروتوكول الثاني، الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي بدأ نفاده على الدول المصادقة عليه في يوليوز 1991. والذي جاء في ديباجته أن “إلغاء عقوبة الإعدام يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطور التدريجي لحقوق الإنسان”، ونص في مادته الأولى على أنه لا يعدم أي شخص خاضع للولاية القضائية لدولة طرف في هذا البروتوكول وأن تتخذ كل دولة التدابير اللازمة لإلغاء، عقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.
****
- · في المملكة المغربية، أخرجت منظمات حقوق الإنسان مصطلح “الإعدام” من مرقده بالمدونات الجنائية إلى الواجهة الإعلامية، في مطلع الألفية الثالثة، بمناسبة أحكام الإعلام المتتالية التي عرفتها محاكمات الإرهاب وذلك من أجل طرح إلغائه، أو الإبقاء عليه بين المؤيدين والرافضين، من علماء القانون والفقه الإسلامي وعلماء الاجتماع، وغيرهم من المهتمين بهذه المسألة.
وقد أفرزت النقاشات التي عرفتها بعض المنابر الإعلامية المغربية، خلال السنوات التي ظهرت بها أحداث الإرهاب، عن وجهتي نظر متباعدة ومتنافرة، الأولى تتشبث بمبدأ “الحق في الحياة”، والثانية تتشبث بمبدأ القصاص.
– المؤيدون لإلغاء عقوبة الإعدام، يقولون أن الحق في الحياة، أساس في مبادئ حقوق الإنسان، وعمودها الفقري الذي لا يجوز المس به أو التصرف فيه، كيفما كانت الأسباب والدوافع، وكيفما كانت المبررات.
– والرافضون لإلغاء هذه العقوبة، يقولون أن دور العقاب في الحكم بالإعدام، هو خلق ضمانة أساسية لعدم تكرار الجريمة، وأن تنفيذ العقوبة هو أوثق الضمانات للقضاء على أصل الداء.
على المستوى المغربي، انخرطت الجمعيات والمنظمات الحقوقية في “النادي” الحقوقي العالمي، الذي يطالب بإلغاء هذه العقوبة، في زمن مبكر، إذ سبق لها في السنوات الماضية أن توجهت بمطالب واضحة في هذا الشأن إلى السلطات المغربية، دون جدوى، ودون أي رد فعل من شأنه أن يفتح باب الحوار حول هذا الموضوع، لكن مع ذلك بدأ الأمر يأخذ صفة جدال ساخن لما لموضوع “الإعدام” من خلفيات سياسية وإنسانية، ودينية، ترتبط بأمن الدولة وسلامتها الداخلية والخارجية.
****
- والإعدام، عقوبة ارتبطت دائما بوجود البشرية، نصت عليها الصكوك القانونية القديمة والديانات الوثنية والسماوية.
والإعدام، كما هو معروف، لا يعني في القوانين الجنائية، الردع القوي للمجرمين والمنحرفين الذين يشكلون خطرا على المجتمع، ولكنه يعني أيضا تغييب الجناة نهائيا عن المجتمع الذي خرجوا عن سننه وأعرافه وقوانينه.
وقد ظهرت عقوبة الإعدام، في القوانين البشرية الأولى، وطبقت على كثير من الأفعال، واتخذت صورة الانتقام الفردي في التشريعات الأكادية وفي قوانين حمورابي والقوانين الأشورية، وفي المدونات الهندية والمدونات الشرقية القديمة، وفي المدونات الرومانية والمصرية والفارسية.
وفي الشريعة الإسلامية، طبقت عقوبة الإعدام في جرائم الزنا عند الإحصان والحرابة والردة والبغي والقتل العمد، أما في القوانين الوضعية المعاصرة، فتطبق عقوبة الإعدام في الخيانة العظمى وفي الجرائم المتعلقة بأمن وسلامة الدولة الداخلي والخارجي، وفي جرائم الجاسوسية والتخابر مع الأعداء، وفي الاعتداء على رؤساء الدول، والتآمر لقلب نظام الحكم، والاغتصاب، وقتل رجال الأمن وحراس السجون، وفي جرائم التجارة في المخدرات، جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.
ومعروف لدى فقهاء القانون بالمغرب، أن التشريع المغربي حافل بالجرائم المعاقبة بالإعدام (30 في القانون الجنائي و15 في قانون العدل العسكري)، تشمل جرائم أمن الدولة وجرائم النظام العام وجرائم الأشخاص وجرائم الأموال، إضافة إلى جرائم الإرهاب.
****
- في الماضي البشري استعملت طرق عديدة لتنفيذ عقوبة الإعدام، أشهرها الغرق والحرق والشنق والجلوس على الخازوق، وقطع الرأس والرجم بالحصى… وهي الطرق التي كانت الأكثر استعمالا قبل ظهور الرمي بالرصاص، والإعدام الكهربائي، والخنق بالغاز السام، والموت بالإبرة المميتة… وغيرها كثير في عالم اليوم.
وحسب المؤرخين، أن الإعدام الفارسي، من أقدم طرق الإعدام في الأرض، ويعتبر من أكثر التقنيات إيذاء لكرامة الإنسانية وحطا من قدرها، إذ تعتمد على أكبر قدر ممكن من القسوة، أي على بقر البطن على مستوى الأمعاء وعلى تقطيع الجثة بعد ذلك على أربع، لدفن كل طرف في قبر.
****
- منذ زمن بعيد، بدأت الإنسانية تطرح الأسئلة حول جدوى الإعدام في إيقاف الجريمة أو الحد منها، وحتى الآن ما زالت هذه الأسئلة متناسلة حول جدوى أو لا جدوى عقوبة الإعدام.
هل تغلق باب التوبة وتمنع الرهان الإيجابي لخلاص النفس البشرية أم أن العقاب هو الحل الطبيعي لمواجهة الإجرام…؟
انطلاقا من هذا السؤال، ظهرت الدعاوى الأولى لإلغاء عقوبة الإعدام، في القرون الوسطى، حيث اعتبرها القديس بيرنارد، مخالفة للروح المسيحية، وأمرا خارقا للعادة، لا شرعية لها، ولا تستمد قوتها من القوة الإلهية، وحاولت الكنيسة استبدالها في الكثير من الأحيان بعقوبات أخرى سالبة للحرية مع الأخذ بفكرة التوبة والتكفير، على اعتبار أن الإنسان كائنا مقدسا، لا يجوز لأحد أن يزهق روحه غير الخالق الذي وهب له وحده الحياة.
وانطلاقا من القرن السادس عشر، عادت من جديد فكرة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام إلى الواجهة العلمية والفلسفية والثقافية، حيث وصفها الفقيه “بيكاريا” في كتابه الشهير “في الجرائم والعقوبات”، بالعقاب الوحشي عديم الفائدة، ورأى بعض المفكرين المسيحيين، أن مشروعية هذه العقوبة تتنافى والتعاليم المسيحية الصادرة عن السيد المسيح، التي تقول:أن الله لا يبتغي فقط إعدام المذنب، ولكنه يأمر المشرع بإصلاح حاله وتقويم اعوجاجه وفتح باب التوبة أمامه.
وفي العصر الحديث، وفي أعقاب الثورة الفرنسية، وجدت دعوة إلغاء عقوبة الإعدام، أذانا صاغية في العديد من الدول الأروبية، حيث ذهب أنصار هذه الدعوة إلى التأكيد على عدم مشروعية أية عقوبة تتعدى حدود عالمنا الإنساني، بحجة أنها تنفد الإرادة الإلهية، معتبرين أن المشرع الذي يقرر عقوبة الإعدام، يعتدي في حقيقة الأمر على قدرة الله وسلطانه، وأنه لا يجوز لأي كائن أن يسلب حياة إنسان وهب الله له هذه الحياة.
لأجل ذلك، نجد أنصار إلغاء عقوبة الإعدام، يدافعون عن حياة الإنسان مهما كانت طبيعته، يؤكدون بمختلف الوسائل على المسؤولية الجماعية للمجتمع تجاه أفراده مهما كانت الأفعال التي يرتكبونها.
ويقول أنصار الإلغاء، أن المجتمع ليس في حاجة لعقوبة الموت للدفاع عن نفسه، فالقتل لا يمكن اعتباره هدفا لتحقيق العدالة… ويقولون: إذا كانت عقوبة الإعدام تحمي عدوى الجريمة باعتبارها أحد الأمراض التي تصيب هذا المجتمع أو ذاك، فلماذا لا تطبق أيضا على مرضى السل والكوليرا وغيرهم من المصابين بالأمراض المعدية، بحجة نقلهم العدوى لهذا المجتمع الطاهر السليم؟
ويقول أنصار الإلغاء أيضا: أن عقوبة الإعدام، يخشاها الناس الأسوياء الذين لا علاقة لهم بالجريمة أو العنف، إلا أنها لا أثر لها بالنسبة للمجرمين ومرضى العقول وغير الأسوياء، ومن هنا تفقد هذه العقوبة أي أثر لها.
****
حتى الآن، يكون النضال الإنساني من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، قد حقق بعض أهدافه، حوالي 108 دولة ألغت عقوبة الإعدام داخل القوانين، أو في الممارسة، 75 دولة منها ألغت هذه العقوبة في جميع أنواع الجرائم، و13 منها ألغتها في جرائم الحق العام فقط.
في الاتجاه المعاكس لهذه الدعاوى، هناك رفض اجتماعي/ ديني لإلغائها. من جهة، يرى العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، أن الإعدام عقوبة توارتتها البشرية عهد عن عهد، وحضارة عن حضارة، ودين عن آخر، وإلغائها يتطلب شرطا يكاد يكون مستحيلا في الأرض، وهو تعميم الأمن والسلام في العالم، وإيقاف الحروب، وتمتيع كل البشرية بالحق في الغذاء والدواء والسكن والعيش الكريم…
وعلى المستوى الاجتماعي، يرى العلماء والفقهاء والمختصين أنه من الصعب إلغاء هذه العقوبة، في زمن تتوسع فيه مساحات الجريمة على الجسد الاجتماعي الإنساني، بتوسع وسائل التواصل والمعرفة، فإضافة إلى جرائم الفساد المالي والأخلاقي والسياسي التي تنشط في خلايا هذا الجسد بكثافة وقوة، هناك جرائم الإرهاب، جرائم الأعراق والطوائف، جرائم الاعتداء على الأصول، سرقات الأبناك والمؤسسات المالية، الجرائم الناتجة عن استعمال المخدرات والكحول، الجرائم الناتجة عن الشعوذة، التي تشترط مواجهتها والتحكم فيها بعقوبة الإعدام.
****
وخارج مواقف العلماء والحكماء، هناك الموقف الصارم للإسلام، من مسألة العقاب بالإعدام، حيث يصعب على دولة المؤمنين أن تلغي من شرائعها وقوانينها أمر إلاهي، لقد نص الإسلام على حدود هذه العقوبة في الحدود: النفس بالنفس/ الزنى/ المفارق لدينه/ التارك للجماعة، وبذلك تتحول هذه العقوبة، إلى واجب ديني. يقول تعالى في كتابه العزيز: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} صدق الله العظيم. ويقول سبحانه {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم أو أرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض} صدق الله العظيم.
السؤال: هل سيتمكن المغرب/ المسلم/ الديمقراطي، من إلغاء هذه العقوبة المثيرة للجذل؟ وكيف؟
لا أحد يستطيع الجواب، ولكن مع ذلك، هناك مؤشرات تقول أن حوارا في الموضوع، يحدث اليوم، وبعمق ومسؤولية بين جمعيات المغرب ومنظماته الحقوقية التي طالبت/ تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، وبين الحكومة المغربية، التي كشفت مؤخرا عن وجود توجه للدولة نحو تعديل مجموعة من التشريعات لتتلائم مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان… والتي تحاول الملاءمة بين الأحكام المتصلة بعقوبة الإعدام… في هذه التشريعات، وبين أراء ونظريات الفقهاء وعلماء الدين وأساتذة علوم الشريعة، التي ترفض الخروج عن ثوابت الإسلام.
إن الآراء والنظريات المتنافرة والمداخلة في هذه المسألة، جعلت عبارة الكاتب الفرنسي لإمارتين حول الإعدام، مرجعية لدعاة الرفض والقبول مرة واحدة:”إنه ليس الموت الذي يجب أن نتعلم كيف نخشاه، وإنما هي الحياة التي يجب أن نتعلم كيف نحترمها”.