عبد إلاله بنكيران.. وجها لوجه مع الفساد والمفسدين
عبد إلاله بنكيران.. وجها لوجه مع الفساد والمفسدين
محمد أديب السلاوي
وصل حزب العدالة والتنمية بزعامة الأستاذ عبد الاله بنكيران إلى السلطة، ليس فقط بتوجهه الإسلامي، وما يطرحه من إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية جذرية لمغرب تتراكم على أرضيته عشرات المشاكل والأزمات والقضايا، ولكن أيضا بفضل الشعارات التي أطلقها ضد الفساد المتراكم على الساحة المغربية والذي أنهك السياسات الإصلاحية، طيلة العقود الأربعة الماضية بعدما تحول هذا الفساد إلى منظومة مخيفة أفشلت وهزمت كل الأحزاب التي وصلت إلى سدة السلطة خلال هذه الفترة من التاريخ.
السؤال الذي يطرحه انتصار حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر 2011، والذي يعود في رأي غالبية المراقبين إلى طبيعة حراك الربيع العربي، الذي أصر على إبعاد الإيديولوجيات المادية والعلمانية عن السلطة، إلى أي حد يستطيع هذا الحزب الانتصار على منظومة الفساد.. وبأية أسلحة؟
وقبل أن يشكل الأستاذ بنكيران حكومته، نضع السؤال: ما هو الفساد الذي يواجه الرجل وحزبه؟
وما هي منظومته التي هزمت في الأربعين سنة الماضية كل الأحزاب والزعامات التي وصلت إلى كرسي الحكومة؟
السؤال مرة أخرى: ما هي الأسلحة التي هيأها الأستاذ بنكيران وحزبه لمواجهة هذه المنظومة. مادام القضاء على الفساد هو هدفه من “الحكم”.
****
لم يعد خفيا أن ظاهرة الفساد المتعددة الصفات في بلادنا أصبحت أشبه ما تكون بمسلسل لا حد لحلقاته، تمثل في الآن نفسه سببا ونتيجة حتمية لتلك الخصائص الجاحظة التي تتميز بها مؤسسات الدولة الإدارية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني أن الفساد متعدد الصفات، أصبح، هو المرتكز الأساس لتآكل المشروعية السياسية التي تعتبر القاعدة الصلبة لعلاقة السلطة بالمجتمع، وهي علاقة قائمة على المنجز، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان السلطة لمضامينها ومشروعيتها، وإلى تلاشي هياكلها التي بدونها تصبح مؤسسات الدولة ونخبها الحاكمة بلا معنى.
تتمتع كلمة “الفساد” التي تواجه العدالة والتنمية وزعيمه الأستاذ عبد الاله بنكيران، في اللغة العربية بليونة فائقة فهي سهلة الاستيعاب والاستقراء ليست عصية الفهم ولكنها مع ذلك تصبح عصية الهضم والتحليل في الكثير من الأحيان.
في القران الكريم جاء ذكر الفساد في العشرات من آياته المقدسة، في أشكال وصفات مختلفة، فهو يمتد من الذين يسفكون الدماء، إلى الذين يهلكون الحرث والنسل. ومن الذين يقتلون الأنفس بغير حق، إلى الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
وفي المفاهيم الشعبية الأكثر اقترابا من الفطرية، يعني الفساد افتقاد الطهارة/ الاستخفاف بالمسؤولية/ خيانة الأمانة.
وفي المفاهيم السياسية، يعني الفساد: طعن الأمة في ظهرها/ التلاعب بمصالحها وقيمها وتقاليدها.
وفي القواميس اللغوية والمتون الفلسفية، يأتي الفساد بأشكال وصور مختلفة، من الصعب تحديدها، وأحيانا يصبح من الصعب التعرف عليها، فهو (أي الفساد)، يختلف من ثقافة لأخرى، ولكنه يظل هو فعل ضد الإصلاح وضد الأخلاق وضد الديانات السماوية وضد القيم الإنسانية، يتقارب ويتوازى مع كل انحطاط وتدهور وسقوط وتخلف وجهل وظلامية. الفساد يعني تكسير مدونة السلوك الأخلاقية والاجتماعية، أو مدونة السلوك السياسية والاقتصادية والإدارية، لاستخلاص منفعة أو منافع خاصة، خارج القانون، وخارج الأخلاق، وخارج القيم الإنسانية.
والفساد في الحياة المغربية، كما يعلم حزب العدالة والتنمية، كلمة قاسية، لا تختفي إلا لتظهر من جديد، بسبب موجاته المتتالية والمتعاقبة التي أغارت على البلاد والعباد خلال عهد الاستقلال، حيث طبعت باستمرار السياسات الإنمائية والمشاريع الاقتصادية. وهو ما ثبت المغرب على لائحة الدول المتخلفة. وجعله واحدة من الدول الأكثر تعرضا للاهتزاز والتصادم… فالفساد الذي يربط بين الاختلاسات المباشرة وغير المباشرة للمال العام من طرف ذوي السلطة والنفوذ وتشريع الرواتب الضخمة والعالية، يتوازى مع كل انحطاط وتدهور… لا ترعاه سوى الأنفس المريضة التي فقدت بصيرتها وتخلت عن قيم مواطنتها.
هكذا أصبح الفساد في الحياة المغربية، قاعدة ليس لها استثناء، يتجاوز شكل الظاهرة الموقته ليتحول إلى آلية من آليات التسيير الإداري/ السياسي/ الاقتصادي، بعد أن تغلغل في المؤسسات والمشروعات، وحولها إلى مقاولات للاغتناء اللامشروع، والتزوير، والرشوة، وتسلق المناصب والقيادات السياسية.
ما هي الأسباب التي أدت إلى استفحال هذا الفساد؟
عن أسباب هذا الفساد وأصوله، تتفق العديد من البحوث الأكاديمية المغربية، على أن “السلطة السياسية” في عالمنا اليوم، هي أصل وهوية كل فساد. تعلل ذلك بالقرارات والتصرفات السياسية للعديد من الشرائح والفئات… فالسياسة لا تنحصر أثارها في القطاع السياسي، بل تمتد إلى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والقطاعات، خاصة وأن فاعليتها في كل الأمم والشعوب، تعتمد على “النخبة” التي تعمل على توزيع المصالح والمسؤوليات المتحكمة في المجتمع والقيم والأخلاق والأموال فيما بينها، وهو ما يجعل “الفساد” ابنا شرعيا للسياسة ولنخبتها.
وأينما وجد الفساد، وجد المفسدون.
والمفسدون هم أرباب الفساد، الصف “القوي” الذي يحاصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والحرية والقانون والمواطنة. والذي يدفع إلى طغيان قانون القوة، بدل قوة القانون. وإلى تمركز السلطة والمال والامتيازات في جهة واحدة، وإلى تغييب المراقبة والمساءلة… وإلى اتساع رقعة التسفل والبغاء والانحلال الخلقي.
المفسدون، هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها وتناقضاتها أمام العالم. وهم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة، تعتمد كل أساليب الاحتيال والقهر والتجاوز والإفساد والاستغلال، من اجل تركيز نفسها في القطاعات والمجتمعات، وتعميق الهوة بين أوطانها والإصلاح والتقدم الحضاري.
والمفسدون هم المخادعون/ عديمو الضمير، الذين في قلوبهم مرض/ السفهاء/ المستهترون/ الطغاة/ المظلون. هم الذين قال عنهم جلت قدرته: الصم، البكم، العمي، الذين لا يبصرون.
والمفسدون قبل ذلك وبعده، هم فئة من السياسيين والإداريين والاقتصاديين والمسؤولين أصحاب القرار، الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لا تميزهم عن الآخرين– في الإدارات العمومية، وفي الأبناك وصناديق الدولة، والأحزاب السياسية والجماعات المحلية/ القروية والبلدية- سوى قدرتهم على اللصوصية، وعلى صياغة القرارات الفوقية الخاطئة والمتعثرة التي تخدم مصالحهم الخاصة، وقدرتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين وامتهانهم واستعبادهم، وقدرتهم الفائقة على تجفيف صناديق الدولة المالية، وعلى إنتاج المزيد من الفقر والاستغلال والضلال والقمع والفساد.
في السنوات الأخيرة، عندما طغت هذه المنظومة في بلادنا، وتجبرت، قامت السلطات التنفيذية والتشريعية بالمغرب، بأكثر من حملة ضد الفساد والمفسدين…
قام البرلمان بمجلسيه، بمجهود غير مسبوق للكشف عن ملفات الفساد الذي ضرب المال العام في العديد من الصناديق والأبناك والمؤسسات، ليؤكد أن المأزق الاقتصادي الذي عاشه ويعيشه المغرب منذ عدة عقود، هو نتيجة طبيعية للفساد الذي يعم إداراته ومؤسساته، والذي أخل بتوازنات مجتمعه، والذي حرم المغرب من نعمة التقدم والاستقرار. فكانت مبادرة مثيرة، حتى وإن كانت الملفات المعلن عنها قليلة ومنتقاة، ولكنها كشفت في الحد الأدنى عن أقنعة العديد من “الشخصيات” البارزة في مجالات الإدارة والسياسة والمال والأعمال، التي تشكل منظومة على قدر كبير من القوة، حيث نقلت صور الفساد من دائرتها المظلمة، إلى دائرة الضوء الإعلامي. وعرّت عن “بعض” الأموال والعقارات والامتيازات التي “اغتصبها” المفسدون في السلطة وخارجها… وجعلت الناس يعرفون عن قرب، أن الفساد قوة تدميرية، تفوق في بطشها قوة الانهيارات الاقتصادية وقوة الزلازل البيئية وقوة الحروب التدميرية.
السؤال: ماذا يستطيع حزب العدالة والتنمية أن يفعل بهذه الملفات؟
إن خطورة ملفات الفساد التي تم الكشف عنها في الحملات المذكورة خلال السنوات الماضية، على قلتها ونذرتها، لا تكمن فقط في الطريقة التي استعملت للوصول إليها، لكن أيضا في تعامل الحكومة والبرلمان (لجان تقصي الحقائق)، معها، مما حول هذه الملفات في المشهدين الإعلامي والاجتماعي إلى ملهاة / فرجة دراماتيكية لتسكين وامتصاص آلام التأزم الاقتصادي/ الاجتماعي الذي وصل في بعض الحالات إلى حد الصياح والاحتجاج، وهو ما منح الحكومة والسلطات العمومية وقتا إضافيا للبحث عن مسكنات أخرى، أو العمل على “تامين” مرحلة أخرى من العمل السياسي.
طبعا لم تكن الملفات المعلن عنها في تلك الحملات هي كل ملفات الفساد الذي يشكل منظومة مؤثرة إلى حد الوجع في الاقتصاد والسياسة والمجتمع… ولكنها على الأقل كشفت للمسؤولين وللرأي العام، أن الأشخاص الذين قدموا إلى القضاء في هذه الملفات لا يمثلون سوى نماذج مختارة “لمافيا” واسعة وعريضة، تضم عشرات المئات من المفسدين، المبثوثين في أركان الإدارة وفي دهاليز المؤسسات العمومية.
لاشك أن المشهد الوطني المغربي اليوم، قد أصبح يستوعب بوعيه ويقظته، ما تفعله هذه “المنظومة” اللعينة بإدارة الشأن العام، وبمال الدولة وما تفعله بالأحزاب والانتخابات والأخلاق… وما تفعله بشعب من الفقراء، لا حول له ولا قوة.
ولا شك أيضا ان هذا المشهد أصبح يستوعب بواعث وأسباب الأزمة الناشئة عن الفاعلية التخريبية لمنظومة الفساد، وهي أزمة قادت المغرب في آخر القرن الماضي، إلى “السكتة القلبية” وهو منشطر إلى طبقتين غير متوازيتين وغير متكافئتين، واحدة تضم الشعب المغربي الذي تسحقه الأزمة وتهدده متطلبات الحياة والعيش، والثانية تضم فئة محدودة من الأغنياء والأثرياء الجدد، الذين أصبحوا يتحكمون ويسيطرون على السلط والأموال والأحزاب، لا يشعرون بما حولهم من تغيرات.
ان المشهد الوطني اليوم الذي جاء بحزب العدالة والتنمية إلى السلطة، أصبح أكثر من أي وقت مضى، يستوعب الهوة السحيقة التي تفصل بين هاتين الطبقتين، ويدرك أن حجم ما فعلته وما تفعله “منظومة الفساد” على الأرض الوطنية، أكبر من الوصف والكلمات. وإن مسؤولية الحكومات السابقة كانت كبيرة وجسيمة. وإن السياسات الفاشلة المتعاقبة، كانت سببا أكيدا لاستدعاء الإقطاعية من رقادها، وجعل أقلية محدودة، تغتني بطرق ملتوية غير مشروعة، تتحكم في السلطة والمال والامتيازات والثروات والخيرات، تحصد مجهود المجتمع العامل / الفقير / المهمش، دون أي جهد، دون أي مبرر أو مشروعية.
أمام هذه الوضعية تبرز العديد من الأسئلة الحائرة.
كيف ستكون آثار الفساد ومنظومته على البرنامج الحكومي للسيد عبد الاله بنكيران؟
ما هو أثره على تماسكه الاجتماعي؟
ما هي صيغة المستقبل الذي ينتظر بلد كالمغرب وجد نفسه يعاني من معضلة الفساد والتخلف، ومن اختلالات عديدة في قيمه الثقافية والأخلاقية، رغما عن وعيه ومرجعياته ويقظته وإدراكه لما يحيط به من مظاهر ومعضلات ومخاطر..؟
السؤال الأخير: هل ينجح حزب العدالة والتنمية في المهمة التي كلفه بها من وضعوه في المقدمة… من وضعوه على كرسي الحكومة..؟
فلننتظر… أليس الصبح بقريب