أسئلة التعريب ورهاناته بالتعليم العالي في البلاد العربية
أسئلة التعريب ورهاناته بالتعليم العالي في البلاد العربية
-1-
يتفق العديد من الباحثين في علوم اللغة، أن اللغة هي ما يحدد الهوية الاجتماعية والفردية للمتكلمين بها، إلى جانب كونها لغة الوجدان والثقافة والتعلم، تعكس وتحفظ وتترجم الموروث الحضاري والفكري لأصحابها المتكلمين بها، وتعتبر وسيلة لتحقيق التعلم والمعرفة، تتحكم في كل التعلمات الدراسية([i]).
لذلك، يرى العديد من الباحثين المختصين، أنه يستحيل على أي مجتمع، تحقيق تنمية تربوية أو ثقافية أو اجتماعية شاملة، دون اعتماده على لغته الأم/ اللغة الوطنية، كسند لهذه التنمية وكفالتها، وقد أكدت هذا المعطى جل الدراسات والأبحاث النظرية والميدانية، لسانية كانت أو سيكولوجية أو سوسيولوجية أو أنتربولوجية أو تربوية، مؤكدة أن اللغة الأم/ اللغة الوطنية، بالنسبة للمتعلم، كما بالنسبة للمواطن عموما، هي أنجع وسيلة للتعليم والتكوين ونقل المعارف والمهارات، كما أنها أيسر السبل للتواصل والتبادل والتعبير عن الأفكار والمشاعر والقيم والرموز المكونة للثقافة الوطنية، وللهوية([ii]).
إن الوضعية المتردية للغة الأم في المدرسة المغربية خصوصا، وفي العديد من المدارس العربية، في المرحلة الراهنة من تاريخنا جعلت تدريس العلوم التجريبية والطبيعية حتى باللغات الأجنبية، تعرف أزمة حقيقية، تتمثل في عجز التلاميذ عن الفهم الدقيق لما يتلقونه من مصطلحات وتعابير ومفاهيم، وعن التعبير بطلاقة عن المفاهيم التي يتلونها، بسبب ضعفهم في التعامل مع لغتهم الوطنية الأم، وهو ما جعل عملية التعريب التي شملت التعليم المدرسي في المغرب، وفي العديد من البلاد العربية، تقوم بمحاولة شبه يائسة لتقوية تعليم اللغات الأجنبية، بمضاعفة حصصها وتحسين طرق تدريسها من أجل تعزيز القدرات اللغوية لتلاميذ المدارس والإعداديات الثانوية، لتمكينهم من مواجهة التعليم الجامعي، غير أن النتائج المحصل عليها كانت سلبية جدا، نظرا لضعف التلاميذ في لغتهم الأم الأصلية.
إن مثل هذا الوضع، انعكس/ ينعكس سلبا على مستوى علاقة الخريجين بسوق الشغل، وعلى مستوى قدراتهم التنافسية مع غيرهم، سيما أن المشغلين يعتبرون أن عدم إتقان اللغات يمثل أحد مكامن ضعف مؤهلات المترشحين، كما أنه يشكل عقبة أمام إدماجهم مهنيا، لأن إتقان اللغات الأجنبية يعد معيارا للانتقاء من أجل ولوج مجال الشغل([iii]).
في نظر أحد الأساتذة المغاربة المبرزين، أن التعريب ليس مسؤولا عن هذا الوضع، بل المسؤول هو ما أسماه “الإجهاز على مسار التعريب، وتوقفه في المؤسسات الثانوية” سيما أن سياسة التعريب، انطلقت دون أن تستكمل مشوارها البيداغوجي، والسبب، في نظر العديد من المدرسين، هو ضغط الفرنكوفونية في المغرب، أو الأنجلوفونية في المشرق، الضغط الذي يقاوم مبدأ التعريب، والذي أثر وما زال يؤثر في مشاريع البناء والإصلاح”، إضافة إلى أن الطلبة أنفسهم لا يجدون أية فائدة في دراسة العلوم بالعربية، ماداموا سيضطرون إلى ترجمتها إلى اللغات الأجنبية.
وفي نظر العديد من الباحثين المختصين، أيضا أن المجتمعات التي تشكل نماذج هامة في عالم اليوم للتقدم والتحضر، لم تحقق أقلاعها العلمي وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية/ باعتماد اللغات الأجنبية/ المحتكرة للتقدم العلمي أو التكنولوجي، وإنما أسست إنماءها على الاتكاء على مقوماتها الذاتية الخاصة، في مقدمتها اللغة الأم/ اللغة الوطنية([iv]).
الأسئلة التي تطرحها هذه الحقيقة/ الاشكالية، كثيرة وعديدة..!
لماذا لا يزال التعليم العالي مصدر تكوين وإعداد للأطر العليا/ مكون القيادات/ مجال البحث العلمي، خاضعا لسيطرة اللغات الأجنبية..؟
ما هي المعيقات التي تحول دون وضع اللغة العربية في موقعها الصحيح بالتعليم الجامعي العربي؟
هل الأمر يتعلق بضعف في اللغة العربية، أم في المناهج والسياسات التعليمية… أم في السياسات الحكومية العربية عموما؟
– 2 –
قبل الخوض في هذه الأسئلة، لابد من الإقرار، أن تدريس اللغة العربية، أصبح يعاني في المدرسة الإبتدائية، والمدرسة الإعدادية… وفي التعليم العالي بالمغرب وبأغلبية الأقطار العربية من عدة صعوبات، مما يجعل التلاميذ غير قادرين على إجادة استعمال لغتهم الأم في مختلف تمظهراتها: كتابة ونطقا وتعبيرا وإبداعا وقراءة، أي في كل الأنشطة التعليمية والحياتية/ العملية، وهذه الصعوبات تتداخل وتتمفصل فيما بينها وتتقاطع أحيانا أخرى، مما يجعل الفصل بينها أمرا عسيرا، كما أن تقديم صعوبة على أخرى يعد أمرا متعسفا، إذ أن هذه الصعوبات متظافرة تساهم بشكل من الأشكال في تعثر التلاميذ في تعلم اللغة العربية تعلما يمكنهم من القدرة على التواصل بها، وفهم النصوص والإبداعات المكتوبة، والتعبير عن الذات والحاجات وإبراز المواقف من خلال تحليل موضوعات علمية أو إنسانية سواء أكانت عبارة عن إنجازات شفهية أم كانت عبارة عن إنجازات كتابية([v]).
في نظر أحد الباحثين العاملين في مجال التربية والتعليم أن الصعوبات التي يعاني منها تدريس اللغة العربية، يعزى إلى أسباب متعددة، أهمها([vi]):
أ/ وجود عدد لا يستهان به من الأساتذة على غير علم بمستجدات علم اللغة سواء أكان ذلك العلم لنظرية أو نظريات اللغة أم كان تطبيقيا يعني بالجوانب التطبيقية لتلك الأسس النظرية، وهو ما ينعكس سلبا على إنجازات هؤلاء الأساتذة ويعيق تحقق الأهداف التي يرسمونها لدروسهم، ويضعف قدرتهم على تطوير معارفهم وتحديث طرائق تدريسهم، مما يجعلهم أسرى للطرق القديمة في التدريس والتلقين.
ب/ وجود العديد من المدرسين الذين يخلطون بين الكفاية اللغوية والأداء الكلامي في الدراسات اللغوية، وخصوصا في حضن المدرسة التوليدية. فمصطلح الكتابة اللغوية يشير إلى قدرة المتكلم –المستمع المثالي- على أن يجمع بين الأصوات اللغوية وبين المعاني في تناسق وثيق مع قواعد لغته، وبذلك فهذه الكفاية ينطبع عليها الإنسان منذ طفولته، وخلال مراحل اكتسابه اللغة، وترتبط بصورة وثيقة بقواعد اللغة، أما الأداء الكلامي فهو الاستعمال الآتي للغة ضمن سياق معين في الأداء الكلامي الذي يجعل متكلم اللغة في نظر العديد من الباحثين، يعود بصورة طبيعية إلى القواعد الكامنة ضمن كفايته اللغوية، فهذه الكفاية هي التي تقود عملية الأداء الكلامي. إن هذا التفريق بين المصطلحين يقودنا في نظر الأساتذة الباحثين، إلى إدراك حقيقة اللغة التي تكمن في كونها وسيلة ثقافية ووسيلة تواصلية في آن وحد، وإذا سلمنا بذلك فإنه ينبغي أن نغير نظرتنا إلى تدريس اللغة في قواعدها، بمعنى أن نحول اهتمامنا من تدريس قواعد اللغة العربية إلى تدريس اللغة ذاتها، لأن هاته القواعد سيستكملها التلاميذ تبعا لاستعمالهم لمصطلحاتها ومفاهيمها ورموزها. وهذا الوضع سيؤثر على أهداف تدريس قواعد اللغة في المدرسة العربية إذ سينصب الاهتمام على تدليل الصعوبات التي تعترض تلاميذنا أثناء انجازاتهم اللغوية عندما يجدون أنفسهم في مواقف تحتم عليهم تكييف تعابيرهم وفق مشاعرهم وحاجاتهم وآرائهم.
ج/ في نظر الباحثين الخبراء أيضا: أن واضعي برامج اللغة العربية لا يحسنون اختيار المادة المقدمة للتلاميذ وتنظيمها وبرمجتها بطريقة تربوية/ علمية/ واضحة/ سهلة، تحبب الإقبال عليها، من أجل خلق نوع من التجانس بين أجزائها، يراعي الجوانب النفسية والاجتماعية للمتمدرسين، ويسعى إلى إشباع حاجاتهم وتحقيق رغباتهم. إن الأساتذة دون تكوين علمي في اللغة، يقدمون المادة بشكل تراكمي وكأنهم يسعون إلى تخريج علماء في النحو أو في فقه اللغة، وهذا ما يدفعهم إلى اختيار نماذج معينة من النصوص تعتبر حجة في اللغة واستشهادات تفصح على صدق القاعدة أو شرح اللفظ، وهو ما يعني أن مناهج اللغة العربية في الوطن العربي ليست منسقة منظمة حسب مناهج علمية معينة، فهي مواد/ ملاحظات متراكمة لا ينتظمها نسق واضح منسجم، وهي لا تنكشف انكشافا ذاتيا يكشف عن طبيعة متميزة خاصة، إنها أشبه بخليط ائتلافي من مواد تاريخية وجغرافية واجتماعية… يصح أن توصف بكل شيء إلا أن تكون مناهج للغة العربية.
د/ ويلاحظ العديد من الباحثين في علوم التربية واللغة أيضا: أن الجانب الشفهي يكاد يكون غائبا ضمن حصص تدريس اللغة العربية، إذ يهتم المدرسون بالمهارات الأخرى كالقراءة والكتابة، وكأن اللغة ظاهرة كتابية فحسب، علما أن اللغة في حقيقتها ظاهرة شفهية ولعل الرجوع إلى المؤلفات اللغوية كاف لتقديم الدلائل على ذلك، فالتكلم إذن سابق على الترميز “الكتابة”: إن التعبير الشفهي ضروري في تعلم اللغة لأنه يجعل التلميذ في مواقف معينة تجعله ملزما بإنتاج تعابير تتلاءم وهاته المواقف، ولعل المهتمين بتدريس اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية وأعون بأهمية التعبير الشفهي أكثر من غيرهم، مما يجعلهم يخصصون حصصا كافية لذلك ضمن البرنامج الأسبوعي للتلميذ.
يعني ذلك بوضوح وشفافية، أن لغتنا الأم/ اللغة العربية تواجه في الزمن الراهن، سلسلة من المشاكل والمعوقات والتحديات التي تحد من انتشارها محليا وعالميا، منها مشاكل التدريس بهذه اللغة، في مختلف الأسلاك، مشاكل المناهج التربوية/ مشاكل تكوين المدرسين، وما يترتب عنها من قضايا سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية واجتماعية وأخلاقية، وهو ما يعني بوضوح أن حالة من عدم الحسم في اختيار اللغة الأم، لغة للتدريس العام… وبالخصوص الجامعي لا تزال تهيمن على المشهد اللغوي في الوطن العربي.
يعني ذلك أيضا، ان تنمية قطاع التربية والتعليم والتكوين والثقافة والبحث العلمي، وتحديد مكانة اللغة/ اللغات الأجنبية ووظيفتها في المرحلة الراهنة، أصبح يفرض نفسه كأسبقية مطلقة على السياسات التعليمية في العالم العربي إذ تتعدد المواقف في هذا الشأن وتتضارب بين قطر وآخر. ففي الوقت الذي يرى فيه البعض ضرورة التعريب الشامل للتعليم والتكوين وللحياة الاجتماعية والإدارية والاقتصادية عامة، من أجل إنقاذ التعليم والمتعلمين، يرى البعض الآخر أنه من المفيد اقتصار التعريب على بعض مجالات التربية والتعليم والإعلام وتدبير بعض المرافق العمومية، مع الإبقاء على اللغة الأجنبية في ميادين المال والأعمال وعلى المواد العلمية في التعليم العالي والبحث العلمي ومواد التكوين التقني والمهني([vii]) بحجة ضعف وتخلف مناهج التعليم في العالم العربي، وهو ما أعطى/.. يعطي هيمنة شبه مطلقة للغة/ اللغات الأجنبية في سوق الشغل وقلصها بدرجة مهولة للمعربين بالوطن العربي، مع أن العالم أصبح اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، مقتنعا كل الاقتناع، أنه ليس في وسع أية أمة أن تعيش بكرامة واستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي والثقافي، ما لم تصن لغتها الأم، في الصناعة والزراعة والخدمات وغيرها من سبل النهضة والاستقلال، ولعل في نهضة الصين واليابان وكوريا، أي الدول التي صانت لغاتها وطورتها، وركزت مناهج تعليمها العالي ومناهج بحوثها العلمية بها، لعل في هذه الأمم مثالا يقتدي به في المسألة اللغوية.
اللغة، تحيا بأهلها وليس بتركيبها، وتحضى بالصدارة عندما يكون أهلها قد سبقوا العالم في التطور الحضاري، ولعل حاضرنا يدل على وجود لغات حية، كانت إلى وقت قريب أبعد ما تكون عن الحياة من حيث تركيبها.
-3-
اللغة العربية، التي تعاني من سلسلة أزمات في المدرسة والجامعة والحياة العملية، في الزمن الراهن، هي قبل كل شيء، لغة حضارة، مرت بتجربة ضخمة عندما تصدت للتعبير عن كل مناحي الحياة… وعن كل الفنون والعلوم والآداب، بأعمق ما تتصدى له لغة من اللغات، ولأنها استوعبت في العصور الغابرة/ في القرون الوسطى، علوم اليونان، وعلوم الشرق والغرب في أوج نهضتها، ولأنها هضمت الإنتاج الفكري لحضارات أخرى وعبرت عنها ولم تعجز عن التعبير عن مكامنها، ولا عن الترجمة، حيث اشتغل علماؤها بالطب والفلك والهندسة والمنطق والموسيقى والفنون والرياضيات والجبر والفلسفة وغيرها من العلوم، التي ما زالت شاهدة على قدرتها. فكيف لها اليوم أن تعجز عن ذلك في مناهج التعليم العام… أو في مناهج الدراسة الجامعية..؟
يجب الاعتراف هنا، أن من أهم المشاكل التي تعترض سير اللغة العربية اليوم، سواء في التعليم الإبتدائي أو الثانوي أو في التعليم الجامعي، أو في الإسهام الحضاري العام، هو أن الناطقين بها توقفوا عن هذا الإسهام، إذ جعلتهم “الكوارث” السياسية، الداخلية والخارجية، والصراعات الحضارية المتداخلة، ليس لديهم ما يقدمونه للعالم من أفكار واختراعات جديدة، وهو ما دفع/ يدفع الباحثين والدارسين والعلماء إلى اللغات الأخرى، ابتغاء ما فيها من فكر جديد…
إن الضعف ليس في اللغة العربية، ولكن في نفوس العرب الذين استسلموا دون شروط للصراع الحضاري/.. ولهيمنة الثقافة الغربية ولغاتها.
إن العالم الأروبي في العصور الوسطى، اتجه إلى تعلم اللغة العربية، وإلى إدخالها في مناهجه الجامعية والأكاديمية، وترجم عنها، العلوم البحتة والفلسفة والفنون، لأنه كان يتمتع بها كلغة، من حيث هي ألفاظ ومصطلحات وأفكار واختراعات، فدرسوها ودرسوها واخدوا عنها ما أنتفعت به حضارتهم.
ولعل أهم المشكلات التي تعترض سير اللغة العربية اليوم، والتي تحد من انتشارها في العالم، لا يكمن فقط في أنها أصبحت رغما عنها لغة محلية، متخلفة متراجعة عن ركب الحضارة/ عصر العولمة، ولكنها أكثر من ذلك أصبحت بعيدة عن منابع التأثير في سياسة العالم واقتصاده وفكره وعلومه وروحه، بفعل السياسات المتخادلة للحكومات العربية وبفعل الصراعات المتنامية ضد الأرومة العربية، وهو تخلف بدوره يبعد العرب عن مجاراة هذا الركب والتأثير في مسيرته الكبرى، فتلك حلقة التأثير والتأثر التي كتب علينا أن نكسر أحد أطرافها حتى ننفذ من الطوق، ونتمكن من التأثير في حياة العصر السياسية والاقتصادية والفكرية، وهو ما يفرض على لغتنا العربية النهوض من جديد والانتشار بأي تكلفة/ وبأي ثمن، ضدا في الصراعات والمؤمرات، لتكون قريبة من العالم… ومن قضاياه وصراعاته([viii]).
من هذه الزاوية، يرى العديد من رجالات التعليم والتربية، أن تعريب التعليم عامة والجامعي خاصة، يجب أن يبدأ من معلم المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية ومن العناية بهما في مدارس المعلمين، وإعدادهما إعدادا خاصا لغرس الذوق الأدبي وجمالية اللغة في نفوس الناشئة، حتى تتربي الأجيال معتزة بهويتها وتراثها، وهو ما يعني أن تشتد عناية المعلم العربي بكل المواد اللغوية… فإذا فسدت اللغة أو قتلت في الصفوف الابتدائية أو الصفوف المتوسطة أو صفوف التعليم الثانوي، لا يمكنها أن تستقيم في الحياة العامة، أو في التعليم الجامعي.
وقبل القيام بهذه الخطوة، يرى العديد من الباحثين في مجالات التربية والتعليم، لابد من إعداد الكتاب المدرسي الملائم لتقوية ملكة اللغة العربية عند التلميذ العربي، كما عند المعلم والمدرس العربي، فالكتاب المدرسي يعد الوسيلة الأساسية لإعدادا التلميذ إعدادا سليما لولوج الجامعة، وهو على قدرة تامة لمتابعة مساره العلمي/ الأكاديمي، بلغته الأم/ اللغة العربية.
إن أعظم إشكالية تواجه التدريس الجامعي باللغة العربية، ليس فقط ضعف الطلاب الجامعيين في هذه اللغة، وهو ضعف ناجم بالأساس عن ضعف المعلمين في الأسلاك الأولى من التعليم، ولكنه ناجم أيضا عن ضعف المناهج التعليمية في السلكين الابتدائي والثانوي، وعن ضعف الأساليب في تعليم اللغة العربية في معظم المدارس الابتدائية والثانوية العربية.
إن العلوم التي تدرس اليوم في الجامعات العربية باللغات الأجنبية/ الفرنسية أو الانجليزية/ أو غيرهما، كانت تدرس أصلا باللغة العربية، وكانت منذ ألف عام عربية خالصة، كما كتبها ابن الهيثم، وابن سينا، والبيروني، والزهراوي، والخازن وغيرهم من العلماء والمفكرين والفلاسفة العرب الذين يقارنون بأعظم العلماء في كل عصر إنهم، كتبوا في الرياضيات والطب والفلك والهندسة والزراعة بلغة عربية سليمة([ix]) ودون أي إشكالية.
-4-
دعاة التغريب، يتفقون على أن ما يواجه تعريب التعليم العالي العربي اليوم، ليس فقط مناهج التعليم، وتكوين الأساتذة وانعدام السياسات في البحث العلمي، ولكن أيضا المصطلح العلمي العربي، أي فقر اللغة العربية في هذا المجال، في حين أن دعاة التعريب، يؤكدون بالدليل والحجة، أن المصطلح العلمي ليس مشكلة بالنسبة للتدريس الجامعي والبحث العلمي في العالم العربي، فالعلم عبارة عن حقائق يمكن التعبير عنها بأية طريقة، ففي نظر المختصين، إذا لم يتمكن المدرسين من ترجمة المصطلح إلى لغتهم العربية، ففي مجال التعريب متسع للجميع، ومن واجب العلماء العرب المحدثين والمعاصرين أن يعملوا على التدريس باللغة العربية من خلال الإصدارات اللغوية العلمية المتوفرة لدى الأكاديميات العربية، التي أوجدت حتى الآن عشرات من المعاجم العلمية في مختلف العلوم والفنون، من الطاقة النووية إلى الطب والكيمياء، ومن الاقتصاد والتجارة إلى الخراسنة والقياس النفسي وغيرها، وهو ما يعني أن الأمر أصبح لا يحتاج سوى إلى القرار الصائب، لتحويل مناهج التدريس إلى اللغة الأم، للوطن الأم، خاصة وأن جهود كثيرة بذلت منذ فجر القرن الماضي، لإحياء المصطلح العلمي العربي واستحداث مصطلحات جديدة، عن طريق الاشتقاق أو التعريب ليصبح هذا المصطلح أساس الدراسة والبحث والتأليف في المجالات الجامعية والأكاديمية.
ومع أن مجامع اللغة العربية والمكتب الدائم للتعريب بالرباط، بذلوا جهودا مضنية من أجل تعريب ووضع المصطلحات العلمية للتدريس الجامعي، فإن العديد من الباحثين المختصين، يروا أن المصطلحات العلمية الموجودة حتى الآن، مازالت غير كافية لسد حاجات ما جد من آراء ومسميات علمية، وسد هذه الحاجات أضحى ضروريا لجعل العربية صالحة للتدريس في الجامعات، وبخاصة في العلوم، الدقيقة والتطبيقية، وهو ما يتطلب إستراتيجية محكمة، يشارك في وضعها أساتذة العلوم، والمجامع اللغوية والأكاديميات العربية لإعطاء اللغة العربية مكانتها في التعليم العالي والبحث العلمي بالبلاد العربية.
ولأن أية دراسة جامعية شاملة في عالمنا العربي اليوم، أصبحت تتطلب معرفة لغة أو لغات أجنبية حية، فالعديد من الباحثين في هذا الشأن، يرون أن هذه الدراسة تتطلب معرفة الطلبة لهذه اللغة، انطلاقا من معرفتهم للغتهم الأم، على أن يكون ذلك بدرجة الإتقان، بحيث يستطيعون قراءة المراجع العلمية، وكتابة الملخصات بطلاقة ودقة، حتى يتم حصول العلم من مصادره وبلغته.
– 5 –
هكذا، يتضح بجلاء أن ما يعترض التدريس الجامعي باللغة العربية، في الزمن الراهن هو عدم وجود مراجع علمية عربية كافية في مختلف العلوم للتدريس الجامعي، وبطئ حركة التعريب في العالم العربي، الذي لا يوازي التطور السريع للعلوم والفنون الشيء الذي يجعل اللغة العربية تفتقر دائما إلى الكثير من المصطلحات العلمية والفنية. إضافة إلى اختلاف المصطلحات العلمية والفنية التي تم تعريبها على يد مجامع اللغة العربية والمكتب الدائم للتعريب والأكاديميات العربية. وصعوبة اللغة العربية، من حيث القواعد والكتابة. وانعدام المناهج والوسائل الصالحة لتعليم هذه اللغة لأبنائها وللأجانب. مع عدم تشجيع الابتكار العلمي والتأليف في مختلف فروع العلوم باللغة العربية. وعدم تحقيق الوحدة الثقافية ووحدة البحث العلمي بين الأقطار العربية([x]).
وفي نظر العديد من الباحثين العارفين بهذه الإشكاليات المترابطة، أن تدريس العلوم والبحث العلمي باللغة العربية، مازال يتطلب:
1/ تنسيق الجهود بين الأفراد العلماء/ المدرسون في العالم العربي، وعددهم اليوم ليس بقليل في مضمار العلوم السياسية والتطبيقية، والعلوم البحثة، وبعضهم استقطبته الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، في وسع البلاد العربية أعادتهم إلى أوطانهم للإسهام مع زملائهم في الجامعات والمعاهد العربية في تحقيق قفزة نوعية في مجال التدريس والبحث العلمي خاصة إذا توفرت لهم الوسائل الضرورية لذاك.
2/ إيجاد المختبرات والأجهزة العلمية المجهزة بأحدث الأجهزة والآليات لإعانة الباحثين في أعمالهم.
3/ إحداث مكتبات علمية تضم أمهات الكتب التي تزخر بالمعلومات العلمية والتقنية والتي تضم المجلات العلمية الدورية والمستخلصات في مختلف الحقول العلمية.
4/ إحداث مركز جامعي قومي، أو مراكز عربية قطرية لترجمة المراجع العلمية إلى اللغة العربية، تتوفر على عدد هام من المترجمين الأكفاء من اللغات الحية إلى اللغة العربية ليحدث تفاعل آني/سريع/ وإيجابي بين الفكر العربي والعالمي/ الأروبي/ الأمريكي/ الياباني، ويعطي دفعة قوية لمجال التعليم، إذ أن المكتبة العربية مازالت تعرف في هذا المجال فقرا مدقعا، وهو ما يقف حجرة عثرة في طريق تدريس العلوم باللغة الأم.
5/ إحداث نشرة دورية للمصطلحات العلمية، يتم بشأنها التنسيق بين مجامع اللغة العربية والجامعات والهيئات المشتغلة على تعريب هذه المصطلحات.
6/ تشجيع تعريب الكتب والمراجع العلمية الجامعية، التي يجب اختيارها من طرف المؤسسات الجامعية العربية، وتشجيع البحث والتأليف في مختلف العلوم باللغة العربية، وإصدار المعاجم المتخصصة عربية علمية، من طرف الهيئات المختصة والجامعات في العالم العربي.
7/ توحيد مناهج التعليم والكتب الدراسية في الوطن العربي.
8/ توحيد مجامع اللغة العربية وجمعها في مجمع واحد يكون تحت إشراف الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية.
9/ إصدار كتب علمية دراسية موحدة بين الدول العربية من طرف لجان علمية متخصصة في التأليف والترجمة.
10/ وضع كتاب عربي موحد، في قواعد اللغة والنحو، يراعي شروط التبسيط والوضوح وسهولة التناول.
11/ الاتفاق على تسمية واحدة للفن أو المادة العلمية في جميع البلاد العربية، بمعنى أن يكون للعرب في أسرع وقت ممكن، مصطلح علمي واحد لكل فن من فنون المعرفة.
12/ تنقية قواعد اللغة العربية التي تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات من الأشكال اللغوية الصعبة وتركها للمتعمقين في الدراسات اللغوية([xi]).
ويمكن اختصار كل هذه الحلول، في وضع إستراتيجية عربية موسعة للتعاون بين وزارات التربية والتعليم ووزارات الثقافة في البلاد العربية، لإمداد الجامعات ومعاهد التعليم العالي العربية، وأساتذتها وطلابها بالمصطلحات العلمية المعربة أو المترجمة، وبالمراجع الرئيسية في مختلف العلوم والفنون مترجمة إلى اللغة العربية، وتنظيم متابعة النشاط العلمي، متابعة دائمة حتى لا يشعر الخطاب العربي، أنه في عزلة علمية بسبب لغته العربية، وحتى تصبح هذه اللغة، لغة علمية وإن كان ذلك لا يعني إهمال اللغات الأجنبية في التعليم العالي العربي أو ضعف العناية بها.
– 6 –
يعني ذلك بوضوح، أن الحلول الناجعة لتحقيق هذا الهدف: تعريب التعليم الجامعي والبحث العلمي، سهلة وبسيطة، ولكنها تتطلب باستعجال:
أ- وضع إستراتيجية تربوية/ علمية/ ثقافية عربية، تحت الإشراف المباشر لجامعة الدول العربية، تتضمن المناهج والبرامج التي من شأنها إحياء اللغة العربية، وجعلها لغة حضارة… لغة علم ومعرفة وبحث علمي، قادرة على بناء أجيال معرفية جديدة، على مستوى عصر الألفية الثالثة، قادرة على الاندماج في الحضارة الحديثة، وهو ما يتطلب وضع مناهج دراسية واحدة/ وضع كتب دراسية واحدة للتعليم الجامعي العربي، في كل تخصصاته العلمية والإنسانية/ إنشاء مجمع لغوي عربي موحد، يعني بوضع وتعريب وترجمة وتوحيد واستنباط المصطلحات العربية الجديدة.
ب- العناية بالبحوث العلمية العربية والعمل على نشرها وعلى ترجمتها إلى اللغات الحية، على أوسع نطاق.
ج- إعادة العلماء العرب والأساتذة الجامعيون العرب، والمفكرون العرب المهاجرون إلى وظنهم العربي، وإعادة إدماجهم في الحركة الثقافية/العلمية العربية، والاستفادة من خيراتهم في الاستراتيجية المقترحة لهذا الغرض، وذلك وفق منهاج مخطط تتفق عليه كل البلاد العربية.
د- إنشاء منظمة عربية عليا للأبحاث العلمية العامة والمتخصصة، من مهامها إعداد خطة أو خطط للأبحاث العلمية وإعداد الباحثين على مستوى العالم العربي، يكون لها دور استشاري في مساعدة الدول العربية على تخطيط التعليم العالي والبحث العلمي، وتنسيق التعاون العلمي بين الدول العربية والهيئات الدولية المختلفة.
يعني ذلك باختصار شديد، أن الدعوة لإحياء اللغة العربية في الحياة العربية، وفي التدريس الجامعي العربي، يجب أن لا تكون فقط مقرونة باهتمام أساتذة الجامعات… أو بتحديد مدلولات المصطلحات العلمية وتوضيح مفهومها العلمي، ولكن أيضا يجب أن تكون مقرونة باتفاق السياسات العربية في الثقافة والتربية والتعليم، على أسلوب موحد للعمل العربي سواء بالنسبة لإعادة الاعتبار لهذه اللغة، أو بالنسبة لما طرأ عليها من مستجدات. وخارج ذلك، يكون الإبقاء على اللغات الأجنبية بالتعليم العالي، أو التعليم العربي العام، مضيعة للوقت، وخيانة قومية ستكرس اغراقنا في بحار من التخلف، إذا لم تكن في سياقاتها الحضارية والسياسية.
أفلا تنظرون؟
محمد أديب السلاوي
[i] – محمد معموري/ الاصلاح اللغوي في السياق المدرسي بالمغرب.
جريدة العلم (10 غشت 2000) ص: 7.
[ii] – مصطفى محسن/ طروحات حول المسألة اللغوية وإشكالية التنمية الحداثة.
جريدة الاتحاد الاشتراكي (18 فبراير 1996) ص : 5.
[iii] – العربية وأزمة تدريس العلوم، جريدة الصباح/ أكتوبر 2006
[iv] – مصطفى محسن/ طروحات حول المسألة اللغوية وإشكالية التنمية الحداثة.
جريدة الاتحاد الاشتراكي (18 فبراير 1996) ص : 5.
[v] – عبد العزيز الفيلالي أبو زمامرة/ واقع تدريس اللغة العربية، جريدة الصحفية 16 يونيو 2000 ص: 27.
[vi] – عبد العزيز الفيلالي أبو زمامرة/ المرجع السابق
[vii] – مصطفى محسن/ المرجع السابق.
[viii] – الدكتور عد الكريم الأشتر/ مجلة اللسان العربي/ العدد الخامس (غشت 1967)
[ix] – عبد الحليم منتصر/ تقاعس أبناء العربية هو المشكل/ مجلة اللسان العربي/ العدد الخامس (غشت 1967).
[x] – نتائج الاستفتاء حول اللغة العربية/ مجلة اللسان العربي/ العدد الخامس/ غشت 1967.
[xi] – المجلس الأعلى للجامعات بالقاهرة/مجلة اللسان العربي العدد الخامس/غشت 1967.