ثقافة العنف الأمني
ثقافة العنف الأمني
-
مع ظهور هيئة الإنصاف و المصالحة على المشهد المغربي، قبل عدة سنوات استبشر المغاربة خيرا، معتبرين أن ظهور هذه الهيئة، سيكون بداية النهاية لفترة ” سنوات الرصاص “. و لطي صفحة سوداء من التاريخ الماضي، مليئة بالأحزان و الصراعات، التي حولت البلاد و العباد لعقود عديدة، إلى ساحة من التصادم بين الديمقراطية، و السلطة، بين ثقافة جديدة تسعى إلى الحداثة و أخرى مخزنية عتيقة، تقوم على القهر و العنف و سفك الدماء.
و لقد كانت الأحداث المرافقة لظهور هذه الهيئة و منها اخلاء السجون و المعتقلات من معتقلي الراي، و من المعتقلين السياسيين و المخطوفين و المغضوب عليهم، و تعويض ضحايا سنوات الرصاص، و الاعتذار لبعضهم خطوة كبيرة و هامة في اتجاه إعادة الطمأنينة لنفوس المغاربة، الذين أصابهم اليأس، و مرحلة هامة لإعادة ترتيب ” البيت المغربي ” على أساس ” مفهوم جديد للسلطة ” يقوم على المساواة بين أفراد المجتمع/ العدل بينهم/ تمتيعهم بكامل حقوقهم الإنسانية/ دعم التكافل الاجتماعي . و العمل الجمعي من أجل الانتقال الديمقراطي، الذي من شأنه إعطاء صورة جديدة لمغرب العهد الجديد… تقوم على صيانة حقوق الإنسان و المواطنة و الحرية و كل القيم المرتبطة بها.
و لكن سرعان ما ظهر في الأفق، ما يفسد هذا الإحساس، و ما يجعل ” هيئة الإنصاف و المصالحة “، و ما رافقها من احداث و إجراءات، مجرد كلام عابر… في زمن عابر.
***
-
لربما اعتقدت الجماهير الواسعة ، أن ” الوقت تغير “. و أن حقوق الإنسان في زمن الإنصاف و المصالحة، ستسمح لدوي الحقوق من العاطلين و المعطلين، و المتضررين من غلاء المعيشة و التهميش، و الفقر و الفاقة، إسماع صوتهم و إبلاغ مطالبهم للمسؤولين في الوقفات الاحتجاجية و المظاهرات و الإعتصامات .
لربما اعتقدت هذه الجماهير، أن السلطة غيرت ثقافتها، و أخذت مفهوما جديدا لتعاملها مع المواطنة و حقوق الإنسان، و مع المطالب المشروعة في الشغل و الصحة و السكن و التعليم و كرامة المواطنين، في ” عهد الإنصاف و المصالحة” … و لكن سرعان ما توضحت الصورة، ليكتشف الجميع، أن لا شيء تغير. و أن أسماء الأشخاص و حدها التي تغيرت، لتبقى ثقافة العنف و الاذلال و العصى الغليظة، هي السائدة في مواقع السلطة، و في مواقع قراراتها .
***
إن نظرة سريعة لمغرب ما بعد هيئة الانصاف و المصالحة، تعطي الانطباع أن المغرب من شماله إلى جنوبه، و من شرقه إلى غربه، أصبح يعيش يوميا، و ربما على مدار الساعة ، بين مشهدين واسعين، متنافرين و متناقضين. الأول، يحتضن ألاف، و لربما ملايين الشباب، من العاطلين و المعطلين، و المهمشين، الذين يطالبون بحقهم الدستوري في الشغل. أو من الذين يطالبون بتدخل الدولة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين من ذوى الدخل المحدود المحتجين على موجة ا لغلاء التي بدأت تحول الحياة الاجتماعية إلى جحيم. يعتصمون يوميا أمام البرلمان و الولايات و العمالات و الوزارات، أو في العاصمة الرباط و في مختلف المدن و الجهات.
و المشهد الثاني، يحتضن قوات السلطة، مدججة بالأسلحة و العصى و هي تفترس الوقفات الاحتجاجية و المظاهرات و الاعتصامات بكل قوة و عنف، و تحول ساحاتها إلى مجازر تنتهك بها حرمات الرجال و النساء و الأطفال و الشيوخ، لتبلور للرأي العام في الداخل و الخارج، المفهوم الجديد للسلطة، الذي يعني بوضوح، على أرض الواقع القوة و الغلبة و القهر و التسلط و الإكراه، من خلال أدواتها الأمنية : قوات الأمن/ قوات الدرك/ قوات التدخل السريع، و هي القوات التي من المفترض أن يكون وجودها الفعلي من أجل حماية أمن المواطنين و حماية أملاكهم و سلامتهم… و من أجل حماية حقوق الله في الأنفس و الأموال، و الأخلاق و التنظيم الاجتماعي.
إن ما حدث في مدينة صفرو قبل شهور، و ما حدث في سيدي ايفني قبل أيام، و ما يحدث يوميا بالعاصمة الرباط في عهد ” المفهوم الجديد للسلطة “، لا يختلف في شكله و لا في مضمونه، عن ما حدث قبل ربع قرن في مدينة الدار البيضاء يوم 21 يونيه 1981 (في انتفاضة الخبز) في عهد ” المفهوم القديم للسلطة “. فكلاهما استعملا نفس الثقافة، و نفس المفاهيم : العنف المبرح ضد المواطنين. و كلاهما اسقطا الجرحى و المعطوبين بالمئات. و كلاهما استعملا عصى الأمن و سلاحه و جبروته رقما أساسيا في العنف و القمع و التنكيل بالمواطنين.
لربما الجديد الذي أتى به العنف الجديد، هو المتعلق بالعنف الإضافي الذي استعملته السلطة/ ” قوات الأمن ” ضد العناصر النسوية، و هو عنف خارج عن المعتاد… كما هو خارج عن قيم الدين و الأخلاق و المواطنة.
إن الشهادات التي نشرتها الأسبوع الماضي، بعض الصحف، على لسان الفتيات اللواتي دقن مرارة التعذيب داخل مخافر السلطة، بعد مشاركتهن في احداث الرباط وصفرو وسيدي ايفني ، تقول بلسان واحد. أن عنف السلطة الجديدة، و حشي بكل المقاييس و لا يمكن للعقل السليم تقبله أو تسليمه، عنف يقوم على انتهاك الحرمات، و الاغتصاب و على إسقاط كل القيم الانسانية.
***
-
و لأننا نعتبر في كل الأحوال و الظروف ، أن زمن الصمت قد انتهى. و أن لا أحد يمكنه أن يسمح بتحويل المغرب إلى ساحة حرب مفتوحة بين المجتمع و أمنه… بين المجتمع و سلطاته، بين ثقافة يريدها المغاربة محكومة بقيم الديمقراطية و الأخلاق. و أخرى محكومة بقيم التسلط و العنف و الإكراه. نضع السؤال ببراءة ووضوح :