الحرية جهادنا حتى نراها !
الحرية جهادنا حتى نراها !
” الحرية ” كانت و ما تزال عشق الإنسان و هيامه، و كانت محل انجذابه الفكري و النفسي و الشعوري، في كل الحقب و الأزمان، و لكن على طول التاريخ و عرضه، لم يستطع الإنسان تحديد مفهومها، أو الإجابة عن أسئلتها الفلسفية و الدينية، أو بتعبير أكثر صحة و دقة، لم يستطع الاتفاق على هذا المفهوم. فطيلة التاريخ الإنساني، طرحت مسألة الحرية، على أنها الحاجة الحيوية للإنسان، لمواجهة أخطار الحياة المختلفة، و على أنها ” الباب الواسع ” لانتقال الإنسان إلى العلم و المعرفة… و لكن مع ذلك مازال مفهوم هذا المصطلح محل انجذاب و خلاف و اختلاف، بين المثقفين و السياسيين و الفلاسفة و العلماء، في كل الديانات و الإديولوجيات و الأنظمة.
و أسئلة الحرية كثيرة :
هل هي تحطيم كل الطواغيت؟
هل هي إلغاء كل الطابوهات؟
هل هي الأمن على النفس و المال و الإرث، أم هي حرية الرأي و التعبير، و حرية التفكير و الاختيار و الاعتقاد و باقي الحريات المرتبطة بقيم حقوق الإنسان و دولة القانون…؟
هل هي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته و كسبه، مع أمنه على نفسه و عرضه و ماله، أم هي مساواته مع أبناء جنسه في الرأي و الحكم و السلطة…؟
هل هي انعدام القيود القمعية و الزجرية، أم هي نقيض العبودية و التبعية…؟
هل هي استقلال الإنسان عن أي شيء، أم هي القدرة على التصرف في كل شيء…؟
هل هي الكشف الحر عن القدرات الذاتية و الفكرية، أم هي إثبات الوجود و الحضور و التعبير عن الإرادة الشخصية؟
خارج هذه الأسئلة، التي لا يدعى هذا المقال الإجابة عنها، تبقى الحرية في نظر العديد من الفلاسفة و المفكرين، هي عنوان الحياة، هي الحقيقة الثابتة للإنسان، و هي الجزء الأوفر من وجوده، و الحظ الأوفر من إنسانيته، فهي في نظر العديد منهم، تتمدد و تأخذ حجمها التاريخي و الفكري و الديني و النفسي، حسب ظروف الأمم و الشعوب الموضوعية، المكانية و الزمانية و الحضارية. فالحرية التي تترابط حولها، قيم الدين و السياسة و الأخلاق و الفلسفة، لا تطاوع على تشكيلها في وحدة نهائية، بقدر ما تطاوع على تنسيقها في فضاءات و تيارات تلتقي عند فترات معينة، أو حالات معينة، و جميعها لا ترقى إلى تحديد مفهومها، و جميعها مسكونة برغبة التخلص من أشياء أغلبها لا محدود في النفس، و ربما في الزمان و المكان.
هل يعني ذلك، أن الحرية فكرة وهمية…؟
هل هي خاصية الإنسان، باعتباره مسؤولا عن نفسه و عن حريته،؟ أم بل إنها ذلك الشيء الذي يجب أن يكون،و لم يتحقق بعد…؟
** ** **
إسلاميا، حظيت مسألة الحرية باهتمام الأولين و الآخرين، فالصحابي القائد و المجاهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لخص الموقف و المسألة، في قولته الشهيرة ” متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” …. المسلم في منظور المذاهب و التفاسير القرآنية، حر في أساسه الديني، من غير أن يهبه أحد حق الحرية، فهي حق طبيعي للمسلم الذي يحرم العبودية، فيشهد على ذلك ما تزخر به المكتبة الإسلامية من المصنفات و الأطروحات، التي أنجزها الفقهاء و العلماء و الفلاسفة المسلمون، حول تحريم العبودية، على اعتبار أن الأسياد، هم أحرار، و الإسلام يؤطر حريتهم حسب ما تمليه الإرادة الإلهية.
في العصر الحديث، و في خضم الاهتمام الجمعي بالحرية، عالج المسلمون مسألتها، من زوايا متعددة، و اتخذ العلماء و الفقهاء و رجال الدين و الحكام، مواقف متعددة و مختلفة، سواء فيما يتعلق بعلاقتها بالدين و أحكامه، أو بعلاقتها مع النفس المسلمة.
بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف، الإنسان حر في أساسه، يملك حق الحرية، كما شرعها الله، و من لا يمارس هذا الحق، خوفا من صاحب نفوذ أو سلطان، ليس بحر، و يحتاج إلى من يدافع عنه… لذلك كان الناس في الدول الإسلامية الأولى، أحرارا، لا يهابون حاكما و يعلنون قدرتهم على تغيير المنكر، و على تقويم الاعوجاج و على حماية الحرية و الأحرار.
في نظر الباحث المصري المعروف، الدكتور محمد أحمد خلف الله ( في مقال له يحمل عنوان قضية الحرية في الشريعة )” المسلم لا يمكنه تأدية واجباته الدينية، ولا ممارسة حياته اليومية و العامة إلا على أساس الحرية “… حرية الإرادة التي تمكن صاحبها من تحمل مسؤوليته في كل ما يقوم به من قول أو عمل …”
** ** **
في الفلسفة، يأخذ الأمر مجرى آخر.إن الحرية هي غياب الإكراه و القيود التي يفرضها طرف على طرف آخر، فالإنسان الحر هو القادر على اختيار هدفه و طرقه، و هو الذي يستطيع الاختيار، سواء من خلال خضوعه لإرادة شخص أو دولة أو أية سلطة أخرى .
و يذهب بعض المفكرين إلى القول، أن غياب الإكراه، هو الشرط الكافي و الضروري لتجديد الحرية، فطالما أن الإنسان يتصرف بملء إرادته و لا يخضع لأي إكراه في سلوكه فهو حر.
و في نظر الفيلسوف البريطاني راسل :إن الحرية بشكل عام هي غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات و الأهداف .
الحرية إذن، و بالنظر إلى التوجهات الفلسفية و قيمها، هي مفهوم ذاتي/ شخصي/ سياسي/ اقتصادي/ أخلاقي/ فلسفي متداخل، ذو مدلولات متعددة و متشعبة. كل مدلول فيها يحتاج إلى مستوى معين من التحديد و التعريف. بل هي شبكة معقدة من المفاهيم، من الصعب تحديدها في كلمات. أو صهرها في مفهوم واحد. فالحرية تتضمن نظريا عدة ” حريات ” حرية الفكر/ حرية التعبير/ حرية الاجتماع و التنظيم/ حرية العمل/ حرية التحرك/ حرية التملك/ حرية الاعتقاد و العبادة/ حرية الانتماء/… إنها حقل واسع يصنع الإنسان بداخله اختياراته و قراراته، و يرسم من خلاله مجرى حياته، بعيدا عن أي إكراه أو قمع أو تسلط … أو توجيه.
** ** **
في الثقافة السياسية، تبلورت فكرة الحرية عبر العصور و الأزمان و الحضارات، حتى إذا وصلت عصر التنظيمات و التحولات، حيث تراجع مجتمع التقليد، و توسع نطاق الدولة، و انتشر الفكر الإصلاحي و برزت مهام المجتمع السياسي، أصبحت الحرية المحور الأساسي الذي تترابط حوله إصلاح القوانين، و محو العادات البالية كما أصبحت هي محور الأفكار و الإيديولوجيات المؤثرة في تيارات الحضارة الراهنة و الانتقال إلى العولمة .
لقد حظيت فكرة الحرية في العصرالسياسي الحديث، باهتمام خاص كإحدى الأفكار الحديثة، المرتبطة بالإصلاحات الحضارية التي ينتظرها عالم اليوم، بقيم و مفاهيم مختلفة، هي أعمق و أشمل .
يرى المفكر المغربي عبد الله العروي ( في كتابه ” مفهوم الحرية ” ) أن التطورات الاجتماعية التي عرفها العالم في القرون الأخيرة، أفرزت حاجة موضوعية إلى هذه الحرية، و قد تم بالفعل تحقيق جزئي لبعض الحريات، و مازال البعض يتطلع إلى حرية أعمق و أشمل.
** ** **
مغربيا، اقترن ظهور الاهتمام بالحرية و شروطها و مواصفاتها، عند الجارة الأوروبية بظهور كتابات/ نقاشات هامة حول هذه المسألة، بين النخبة المغربية، نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، نذكر منها على الخصوص، كتابات أحمد الناصري و أبي عبد الله السليماني في نهاية القرن التاسع عشر وكتابات سعيد حجي و علال الفاسي و محمد عزيز الحبابي، و أحمد بلافريج ، و محمد المكي الناصري، و محمد حسن الوزاني، و الفقيه داوود وعبد الله ابراهيم، في القرن الماضي… و هي كتابات فقهية و فلسفية و سياسية وسعت من مفهوم الحرية، جيلا بعد جيل، ومرحلة بعد أخرى، و أعطت ” وصفة ” متميزة للحرية .
1 – بالنسبة للفقيه السليماني و جيله ( نهاية القرن 19 )، كانت الحرية مشروطة بأحكام الشرع، لا تخرج عن أداء الشعائر الدينية/ حرية الملكية/ حرية الفكر/ حرية التعبير/ حرية العمل/ حرية الدفاع عن النفس بالحجة البالغة/ الحرية السياسية المناقضة للاستبداد، هي حرية لا تخرج عن الشرع و لكنها ترفض الحرية التي يمارسها الغرب و التي تقبل بفكرة الحرية المطلقة التي ” تتعدى أوامر الشرع و نواهيه. في نظر المفكر المغربي محمد سبيلا كان هذا التوجه، مع ذلك متفتحا بالنظر إلى الأوضاع التي كان عليها المغرب في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر .
هل كان تحفظ النخبة المغربية من الحرية في المفاهيم الغربية خلال تلك الفترة، يعكس عدم نضج كيان و حقوق الفرد في المجتمع التقليدي، أم كان يعكس مقاومة النخبة المغربية لكل الأفكار المرتبطة بالأجنبي أو الواردة منه، باعتباره كافرا يعيش في حالة الجاهلية؟ يلاحظ ذ .سبيلا أن هذه النخبة لم تربط المعنى الجديد للحرية في كتاباتها، بمسألة الإصلاح السياسي، الذي يربط الحرية ببعدها السياسي المتمثل في الحقوق الساسية للفرد و إقامة السلطة على أساس ضمان الحريات السياسية للمواطن.. فهي ظلت محصورة في تصوراتها القائمة على الشرع، حتى إشعار آخر .
2 – أما بالنسبة لجيل السياسي و المفكر محمد علال الفاسي ( بداية القرن الماضي ) اختلف أمر تقييم الحرية، أخذت مفاهيم الحرية موقعا آخر في السلوك و في التفكير، فهذا الجيل أطلق شعار : ” الحرية جهادنا حتى نراها “… و أصبحت الحرية تنتقل من نضج إلى آخر لتصبح أكثر استيعابا لظروف العصر و لشروطه الملزمة.
و لربما كان لمعاهدة الحماية ( مارس 1912)، حيث فقد المغرب استقلاله، دخل هام في هذا الانتقال، و في تطوير مفهوم الحرية، التي أصبحت شعارا واسعا و شاملا، يبحر في كل الفصائل و الاتجاهات و الصراعات. الحرية عبر أفكار النخبة الجديدة لمغرب عهد الحماية، انتقلت في خطب و أشعار و كتابات الزعماء و المثقفين و الإعلاميين، و المناضلين في الأحزاب السياسية إلى العقل الجمعي، فأصبحت أداة أولى، لنزع الاستقلال، وبناء مغرب جديد، منخرط في الحضارة العالمية، بخصوصياته و قيمه .
إن جيل محمد علال الفاسي جسد بعمق توجهات الجيل الأول لهذه النخبة في كتاباته السياسية و الفقهية و الإبداعية . الحرية تتجاوز مفهوم تحقيق استقلال البلاد، و استقلال إرادتها إلى مفهوم المواطنة. و مفهوم الحقوق الفردية و الجماعية . تميز بين الحرية الإلهية المطلقة، و الحرية الإنسانية المطلقة المبدعة، كما قررها الإسلام، ” الحرية الإنسانية ” ليست شيئا اعتباطيا، و ليست شرعية بشرع الله و فعله “./ علال الفاسي
الحرية الشخصية أو الفردية في نظر هذا الجيل، لا تعني إرادة الانسان في أن يفعل ما يشاء، بل هي تمتع الإنسان بالحقوق، و قيامه بالواجبات، هي حرية الفكر و حرية الإحساس،حرية التعبير و هي أيضا رفض العبودية و التمييز، هي مقاربات مستمرة و دائمة، بين حقوق الله و حقوق العباد، في ” ملعب ” الحرية الواسع .
3 – أما بالنسبة لجيل محمد عزيز الحبابي/ عبد الله العروي/ محمد سبيلا/ فاطمة المرنسي…محمد عابر الجابري/ محمد العلمي ( الذي أتى مباشرة بعد جيل علال الفاسي) فقد عرف مفهوم الحرية نقلة نوعية أخرى، ذلك لأن الأفكار و المقاربات التي جاء بها هذا الجيل، تؤكد أن الحرية ليست مفهوما فقط، و لا شعارا فقط، بل هي حاجة فردية/ سيكولوجية/ تاريخية و اجتماعية، يجب التعامل معها بشروطها الموضوعية و الذاتية .
إلى حد جيل هذا الجيل، يكون مفهوم الحرية في المغرب المعاصر و المغرب الحديث أيضا، قد انتقل على مدى قرن من الزمن، من مفهوم فردي/ أخلاقي كما نجده في الفقه و علم الكلام، إلى مفهوم اجتماعي و تاريخي و سياسي و فلسفي أوسع و أشمل ، إنه يتقارب مع المفهوم الذي تحمله الليبرالية و الفلسفات الحديثة في عالم اليوم.
فالنخبة المغربية الجديدة، تربط الحرية بالتطور و التنمية، و تجعل منها شرطا ضروريا لبلورة العبقرية و المواطنة…و حقوق الإنسان و أكيد أن الأجيال الصاعدة، مازالت تقلب في هذه الكلمة/ الحرية، و ما زالت تستخرج منها ما تطمح إليه..
في الحرية تتجلى إنسانية الإنسان، و في المواطن الفاعل، تتجلى معاني و مفاهيم الحرية.. هكذا تريدها الديمقراطية.
** ** **
ترى هل استطاعت رؤى هذه الأجيال الإجابة على بعض الأسئلة التي تطرحها مسألة الحرية…؟
شخصيا لا أعتقد ذلك، لأن سؤال الحرية، كان و ما يزال هو الأصعب في كل المطارحات التي ” تشتغل ” على الإنسان،و الحداثة، و العولمة، و الديمقراطية، و لكن مع ذلك كانت قراءة هذه الأجيال لمسألة الحرية تسعى إلى وضع ” الحرية ” في إطار موضوعي و شمولي، و هو ما جعلها حية باستمرار في الوجدان المغربي .