الدكتور عبد المالك البلغيتي: محمد أديب السلاوي يفكك السلطة المخزنية ويحاصرها بالأسئلة الملحة
المصنف الهام حول “السلطة المخزنية” الصادر مؤخرا عن دار الوطن بالرباط للكاتب والصحفي محمد أديب السلاوي، لا يكتفي بتسليط الضوء على مفاهيم هذه السلطة في اللغة والفكر الإسلامي والفكر الغربي، للتأكيد على تجدرها في عمق التاريخ السياسي المغربي، بل يطرح عشرات الأسئلة حول استمرار تحكمها في كل مظاهر العصرنة والتحديث بمغرب اليوم…ومغرب الأجيال الصاعدة، كما كان الأمر في مغرب العصور الغابرة.
ومن أجل وضع هذه السلطة في إطارها الموضوعي، اتخذ الكاتب من القرن العشرين، الذي عرف أحداثا ومخاضات تاريخية وحضارية متميزة في تاريخ المغرب (عقد الحماية 1912-1955/ إعلان الاستقلال بعد ذلك) اتخذه مساحة محددة في الزمان والمكان لقراءة مفاهيم هذه السلطة، وهي مساحة جمعت بين نماذج من نخب السلطة، متباعدة في القيم والثقافة والتكوين، ولكنها متقاربة في اخلاصها للسلطان، وفي الدفاع عن مصالحها من خلال دفاعها عن مصالحه.
إن أحمد بنموسى/ الباحماد (1841-1903) والحاج التهامي الكلاوي (1878-1955) وهما من مدبري السلطة المخزنية في عهد الحماية، كالجنرال محمد أفقير (1920-1972) وادريس البصري (1938-2007) في عهد الاستقلال/ النصف الثاني من القرن العشرين، وجوه متشابهة في ملامحها الأخلاقية والنفسية، لها قواسم مشتركة متعددة، تنتمي إلى ثقافة هشة ولكنها حولت السلطة الإدارية، إلى سلطة قسرية/ زجرية/ تلزم الجميع على التكيف بالعنف، وهو ما أعطى سلطة المخزن خلال القرن العشرين، قبل الاستقلال وبعده، صورة محزنة لمفاهيمها، ولواقعها على أرض الواقع.
السؤال الذي يطرحه هذا المصنف الذي يلقي الأضواء الكاشفة على إشكالية السلطة في مغرب يتطلع إلى الحداثة والديمقراطية ودولة المؤسسات: إلى أي حد تستطيع السلطة المخزنية، تحديث وتغيير مفاهيمها ومناهجها في اتجاه مفهوم جديد للسلطة، يقوم على الديمقراطية وعلى قيم دولة الحق والقانون، في عهد المغرب الجديد، عهد الملك الشاب محمد السادس؟
****
يختلف مفهوم السلطة في المغرب القديم/ الحديث، عن مفاهيمها في اللغة العربية، أو في الفقه الإسلامي، كما في الفكر الغربي أو في المفاهيم الديمقراطية الحديثة، إنها في نظر الكاتب محمد أديب السلاوي، تتخذ من كل المفاهيم المتداولة، مفهومها الخاص.
السلطة المخزنية في صيغتها المغربية هي نخبة من الموظفين، يشرفون على الشؤون العامة بالحواضر والبوادي، تشكل في قوانينها وأسلوب إدارتها وقيمها دولة داخل الدولة… المخزن هو المتحكم في قواعد اللعبة، هو المحدد لطبيعية الأدوار التي يجب أن يقوم بها كل فاعل سياسي في الدولة، بل أن بنيته في الوضع المغربي أسبق وأقدم من بنية الدولة المعاصرة، عنده تتمركز كل السلط، الهيبة كأداة إرغام لسلطة القانون، وكأداة تنظم المؤسسات المرعية في الإطار الجغرافي للدولة، وهو ما يجعل الدولة في نهاية المطاف، بمثابة الابن الشرعي للمخزن.
في عهد الحماية (1912-1955) أعيد تنظيم المخزن كبنية وسلطة ومفهوم، حيث توسعت سلطاته (سلطات العمال والولاة) على حساب السلطات القضائية، وذلك من أجل استيعاب إدارة الحماية، ما هو مخزني في علاقتها مع الأهالي، أي تكريس الخوف الذي يمتلك المواطنين في كل وقت وحين، وفي كل الحالات، من أجل إخضاعهم لإدارة السلطة، والتحكم في مصيرهم ومواقفهم ومصالحهم.
في نظر المؤلف، لربما بسبب العمق التاريخي لمفهوم المخزن، لجأ النظام السياسي المغربي عقب الاستقلال (1955) حتى بعد أن أصبح ظاهريا، يتوفر على دولة مركزية، على دستور ينظم العلاقات بين مختلف السلط، وعلى حياة سياسية تعكس شكليا التمثيلية السياسية لمكونات المجتمع المغربي- لجأ إلى الإبقاء على “النظام المخزني”. وعلى أنظمته ومفاهيمه وأساليبه في إدارة السلطة، وهو ما جعل دولة الاستقلال تعيد إنتاج هذا النظام بهياكله ونخبه التقليدية وإعطائه مبررات الاستمرارية والقوة الإيديولوجية والرمزية التي تكون فاعلة ومؤثرة زمن الأزمات، أو في تمرير القرارات.
في الإضاءة الثانية من هذا المصنف، يخرج محمد أديب السلاوي من مفاهيم السلطة المخزنية، ليدخل إلى روادها/ هياكلها المؤثرة التي قامت بتطبيق تعاليمها/ قوانينها الخشنة على الأرض (في القرن العشرين)، حيث وضعهم تحت عنوان واحد: المخزن، وجوه متعددة لعملة واحدة.
والوجوه التي توقف عندها الكاتب، تعطي صورة واضحة عن ماهية السلطة المخزنية وقوانينها وأساليبها وقيمها في إدارة السلطة من خلال سيرها المهنية، فهي الوجوه التي اعتمدتها الدولة في استمرارها ونفوذها وحماية مصالحها خلال القرن الماضي (1900-2000)، وهي متشابهة في ملامحها الأخلاقية والثقافية والنفسية، جميعها حولت السلطات الإدارية إلى سلطات قسرية، تحكمت في أجهزة القمع، تحولت إلى شخصيات محورية، ينقلب الرمز عندها إلى سلطة بيدها، تخضع الكل لإدارتها.
أولى هذه الوجوه/ الشخصيات: لأحمد بن موسى المدعو الباحماد، تسلق مواقع الدولة (نهاية القرن التاسع عشر) انطلاقا من منصب الحجابة السلطانية (على عهد السلطان الحسن الأول)، ليصبح الرجل الأساس على عهد السلطان عبد العزيز، بفعل الأدوار الرديئة التي لعبها على الساحة السياسية، قبل إرغام المغرب على عقد الحماية،.
لقد استطاع الاستحواد على كل سلط الدولة المدنية والعسكرية والرمي بمنافسيه الذين كانوا يحتلون مواقع سياسية متقدمة في غياهب السجون، بعدما تركهم واستولى على ثرواتهم وأنهى وجودهم السياسي بالعنف، وهو ما أذى إلى ظهور العديد من الأزمات، انتهت بانقلاب الأمير عبد الحفيظ على شقيقيه السلطان عبد العزيز في البداية، وإلى عقد الحماية واحتلال المغرب في نهاية المطاف سنة 1912.
الشخصية المخزنية الثانية التي استدعاها الكاتب من مرقدها، الحاج التهامي الكلاوي، الذي بدأ حياته السياسية سنة 1905 بتعيينه على رأس قبيلة كلاوة والقبائل المجاورة لها، لينتهي به المطاف حاكما مطلقا للجنوب المغربي، انطلاقا من موقعه كباشا لمدينة مراكش…
في هذا الموقع الذي احتله بدعم من القوات المحتلة (من سنة 1912 وإلى غاية 1955) قام بمبادرات إيجابية تجاه الدولة الحامية، قدم لها خدمات عديدة من أجل تثبيت وجودها الفعلي على الأرض، وفي مقابل ذلك مارس سلطات لا حدود لها على مجموع منطقة الجنوب، قمع كل الانتفاضات الوطنية ضد الاحتلال، سيطر على الأراضي الزراعية، والأملاك الخاصة، وفقر وهمش كل الأفراد والأسر والقبائل التي رفضت الرضوخ للسلطات الاستعمارية.
الشخصية الثالثة التي سلط الكاتب الأضواء الكاشفة على مسارها، هي شخصية الجنرال محمد أوفقير، الذي جاء السلطة المخزنية في عهد الاستقلال، من خلال السلطة العسكرية التي خدمها بإخلاص في عهد الحماية، فجعل نفسه عربون الاستمرار بين مغرب عهد الاحتلال، ومغرب عهد الاستقلال، فكان أول ما أنجزه (سنة 1957) ضرب تمرد عدي وبيهي، والقضاء عليه بأسلوب جهنمي أبهر الفرنسيين فبل المغاربة، وضربة انتفاضة الريف (سنة 1958) الذي خلف آلاف الضحايا، وهو ما جعل هذا الإقليم يطلق عيه لقب “جزار الريف”.
بعد ذلك ارتبط اسم الجنرال أوفقير بكل الأحداث الدامية التي عرفها المغرب قبل سنة 1972، حيث تمت تصفيته على إثر محاولة انقلابه العسكري الفاشل ضد الملك الراحل الحسن الثاني.
الشخصية الرابعة التي أعادها الكاتب محمد أديب السلاوي إلى الواجهة للتدليل على مفاهيم السلطة المخزنية، في عهد الاستقلال. كانت لإدريس البصري، وهو كسابقيه، تسلق سلم السلطة، من ضابط شرطة صغير بإدارة الأمن الوطني، إلى إمبراطور للسلطة، يحتل الموقع الثاني في الدولة المغربية الحديثة… فهو في نظر المؤلف، وفي نظر العديد من المراقبين، اقتبس ملامحه وسلوكه في السلطة المخزنية، من رموز الحكم السابقين واللاحقين، فجاء نسخة من تلك الشخصيات المحورية التي ارتقت من وظائف بسيطة إلى سلطة، لا تظاهى في الدولة…
استطاع ادريس البصري بدهاء تحويل وزارة الداخلية عندما تسلمها سنة 1975 إلى مؤسسة دستورية للسيادة، تسمو فوق القانون، تعلو على كل مراقبة، تمتد في شرايين المجتمع كالأخطبوط بكل وسائل الاحتكار والإكراه والعنف والوصاية على المؤسسات المنتخبة، والتحكم في الخريطة السياسية… وفي كل دواليب الدولة ومجتمعها المدني، فجعلها وزارة ذات مناعة خارقة، ضد تقديم فاتورة الحساب، بل أصبحت مجالا لتفريخ نخب وقيم جديدة للمخزنة ولسلطاتها.
وكباقي شخصيات السلطة في مغرب القرن العشرين كان ادريس البصري لفترة تزيد عن ربع قرن، أداة قوية لقمع كل الانتفاضات، والحركات التقدمية، حيث خلفت مواجهاته آلاف الضحايا، إضافة إلى جرح عميق على الجسد الوطني، قد يحتاج إلى عقود من الزمن لا ندماله.
لربما من الإنصاف أن نعترف للأستاذ محمد أديب السلاوي توفيقه في جمع هذه الشخصيات على مساحة واحدة، ليس لمحاسبتها فقط، ولكن أيضا باعتبارها تشكل ظاهرة متميزة في تاريخنا المعاصر، لا تتمثل فقط في أنها تغطي قرنا من الزمن المغربي، ولكن لأنها صنعت أجهزة خطيرة من الأعوان والمساعدين والمؤسسات الأمنية السرية والعلنية التي خدمت أغراضها من خلال خدمة أغراض الدولة المخزنية… إنها شخصيات لم تكن في يوم من الأيام قوية، أو تتمتع بخلفية ثقافية أو قبلية، ولم تفلح في طرح نفسها كفاعلة اجتماعية أو سياسية، ولكنها مع ذلك، تحولت بسلطة المخزن إلى ظاهرة مخيفة، تملك أجهزة للقمع والعنف والاغتصاب وسرقة المال العام… لا حدود لنفوذها.
السؤال الذي يطرحه الكاتب في إضاءته الختامية من هذا المصنف الهام، والذي يمكن اعتباره مرجعا أساسيا في مجال السلطة المخزنية بالمغرب المعاصر، إلى أي حد تستطيع مفاهيم السلطة المخزنية التقليدية الاستمرار في البقاء على جدارية الدولة المغربية الحديثة..؟ كيف لهذه المفاهيم أن تلتقي وتتعايش مع دولة المؤسسات/ دولة حقوق الإنسان/ والديمقراطية؟
إن تحديث مفاهيم السلطة، وجعلها على مستوى طموحات الشعب المغربي، قضية هيمنت على المشهد السياسي منذ بداية عهد الاستقلال، حيث أدركت الساحة السياسية الوطنية، أن بناء دولة عصرية في هياكلها ومفاهيمها، لن يتأتى خارج شروطه الموضوعية، في مقدمتها تحديث مفهوم السلطة، والخروج من العقلية المخزنية العتيقة والمتآكلة إلى العقلية الديمقراطية… فهل حان الوقت إحداث تغيير جدري في طبيعة البناء العام لطبيعة السلطة في المغرب، وتأسيس نظام مغاير لها في العهد المغربي الجديد..؟
تاريخيا، دعا الملك محمد السادس في نهاية 1999 إلى ضرورة نهج أسلوب جديد للسلطة، بما يجعل الدولة جهازا ضامنا للاستقرار والأمن وعاملا رئيسيا في الرقي والتطور، إلا أن الدعوة الملكية في نظر مؤلف هذا الكتاب، لم تبارح مكانها، ظلت تسعى إلى إرساء دعائم القانون وتطبيقه تطبيقا سليما يضمن مساواة جميع المواطنين أمامه دون تحيز لأحد الأطراف، ذلك لأن الدولة هي الجهاز التحكيمي الأسمى الذي يضع نفسه فوق الجميع، ومن أجل الجميع. وهو ما يثير عشرات الأسئلة: كيف لدولة المخزن أن تختفي لصالح دولة الحق والقانون..؟ وهل يستطيع المفهوم الجديد للسلطة الذي طرحه الملك الشاب، تفكيك الأخطبوط الذي قامت عليه دولة المخزن التقليدي… وعلى أية بدائل؟ وهل يستطيع هذا المفهوم الامتداد نحو الخضوع إلى القانون والانفتاح على المجتمع، وتحقيق تواصل أفضل معه وإشراكه في اتخاذ القرار الديمقراطي؟
في خاتمة هذا الكتاب الذي فكك بليونه ويسر مفاهيم السلطة التقليدية، ليعيد تركيبها من خلال شخوصها/ روادها، الذين طبعوا تاريخ المغرب خلال القرن الماضي، بالكثير من العنف والتسلط، يؤكد الأستاذ محمد أديب السلاوي، أن الانتصار على التحديات التي تواجه مغرب اليوم، لإعطاء مفهوم جديد للسلطة هو انتصار للذات وللمستقبل، لكنه سيظل انتصارا مشروطا ببناء جسور ثقة فعلية مع مفاهيم الحداثة وبعث معنى التجديد والتغيير على أرض الواقع.
باحث في العلوم السياسية/ مركز الدراسات الشرق أوسطية/ باريز