حوار مع المختار الزياني مدير مكتب جريدة الإتحاد الشتراكي بالرباط
· اللوحة المغربية لم تنفد إلى البيت الاجتماعي، ولكنها عمل ثقافي يساهم بفعالية في التغيير والتحديث.
· السياسيون المغاربة، يقتنون الأعمال، وبعضهم يمارس الصباغة باحترافية.
حوار المختار الزياني
الكاتب والصحفي محمد أديب السلاوي، من بين الأسماء الإعلامية القليلة التي اهتمت بالحركة التشكيلية المغربية، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، إذ أصدر خلال العقود الأربعة الماضية سلسلة من الكتب التي أرخت لهذه الحركة، وقرأت باهتمام إبداعات روادها، وتابعت مساراتها واتجاهاتها منذ انطلاقتها بداية القرن العشرين وحتى اليوم.
فبعد، التشكيل المغربي بين التراث والمعاصرة (الصادر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق/ سنة 1982) وأعلام التشكيل المغربي (الصادر عن وزارة الثقافة ببغداد/ سنة 1984) والحروفية والحرفيون (الصادر عن دار البوكيلي بالقنيطرة/ سنة 2000) يصدر له نهاية السنة المنصرمة، عن دار مرسم بالرباط، كتاب جديد بعنوان: التشكيل المغربي البحث عن الذات، وهو الإصدار الذي سيتم الاحتفاء به وبمؤلفه، يوم 15 فبراير الجاري بمدينة فاس.
هذه التراكمات في حياة الكاتب محمد أديب السلاوي، الذي سبق له أن نظم العديد من التظاهرات التشكيلية، ونال العديد من الجوائز الدولية في هذا المجال، تطرح العديد من الأسئلة، حاولنا في هذا الحوار، البحث عن أجوبة لها
س: كيف تنظرون اليوم إلى الممارسة التشكيلية في المغرب؟
يتضح من خلال الحركية المتطورة للفن التشكيلي المغربي، المتمثلة فيما ينجزه هذا الفن، من إبداعات تتجدر في قيم الحداثة أحيانا، وفي قيم التراث أحيانا أخرى، أن وضعيته الحالية، تمر رغم ضعف بعض جوانبها، بمرحلة غنية، بما تحفل به من نقاشات ثقافية وتنظيرات أكاديمية، حول قيمها الإبداعية والجمالية، وحول الالتباسات التي رافقتها وترافقها في مسيرتها التاريخية.
نعم، لا يزيد عمر الحركة التشكيلية المغربية عن قرن من الزمن، ولكنها مع ذلك استطاعت استقطاب العديد من الأصوات الثقافية إلى صفها، بل استطاعت أن تنجز وضعية صلبة، فهي تتوفر اليوم على مدارس للتكوين، وعلى مناهج تربوية تمتد من التعليم الثانوي إلى التعليم العالي، وعلى جمعيات تعتني بأوضاعها وأطرها وروادها واتجاهاتها… وهي تتوفر على قاعات للعرض، وعلى ما يشبه “السوق التجارية” التي تروج لأعمالها… وغدا ستتوفر على متاحف لحفظ إبداعاتها.
وبالنظر إلى ما أنجزته الحركة التشكيلية المغربية، خلال مرحلة النشوء والارتقاء على مختلف الأصعدة، استطاعت هذه الحركة في ظرف زمني قياسي التجدر في الطموحات الثقافية، وفي مختلف التناقضات التي عاشها/ يعيشها المجتمع المغربي، قبل وبعد الفترة الاستعمارية، والانتقال بالإبداع التشكيلي من مجرد “هواية” وظيفته تجزية الوقت إلى “عمل” ثقافي يساهم بفعالية في التغيير، والتحديث والتنمية البشرية، والبناء القومي، ينتزع شهادات تقدير واعتراف من مختلف الفاعلين في الحركة الثقافية الإنسانية التي أسست لقيم الثقافة التشكيلية المعاصرة في عالم اليوم.
بالنظر إلى هذه الوضعية المتميزة، يصبح التطلع الدائم للحركة التشكيلية المغربية، وبحثها المستمر والمتواصل عن آفاق جديدة، فيما تستوعبه الحركة العالمية من قيم مسؤولية ثقافية، لا يتحملها التشكيليون وحدهم، ولكنها مسؤولية النقاد والإعلاميين، وكل فرقاء الساحة الثقافية الوطنية، الذين يعملون من أجل أن يكون “المغرب الثقافي” في مستوى حركية الحضارة الإنسانية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة على الممارسة التشكيلية بالمغرب، ما هي علاقة هذه الممارسة بالحركة الثقافية الوطنية. هل هي علاقة فكرية موضوعية متوازنة، أم هي علاقة طارئة عشوائية فوضوية.
الذين يطرحون مثل هذا السؤال، ينطلقون من فرضية مسبقة، كون العمل الإبداعي التشكيلي، الذي ينتمي للفكر قبل أن ينتمي للحرفية، يتأثر بالظواهر والمذاهب والقيم والمدارس، يتحرك ضمن فضاء استكشافي/ معرفي،… وينطلق من عمق التربة النظرية التي يجد الفنان من خلالها ذاته ومنطلقاته.
والذين ينطلقون من هذه الفرضية أيضا، لا يجهلون الظروف الثقافية التي أفرزت الفنان التشكيلي المغربي، وهي ظروف تكاثفت حولها شتى أصناف الإحباطات والانكسارات والضغوط، كما تكاثفت حولها العلاقات المهزوزة والغير متوازنة، التي تربط الفنان التشكيلي بالحركات الثقافية/ السياسية/ الاجتماعية المتداخلة على أرضية الواقع المغربي.
ومع أن هذه الإشكالية، قائمة بقوة، فإن عملية البحث عن صيغة للتلاحم مع هذا الواقع، قائمة هي أيضا، واستطاعت أن تحرك الماضي بثقله الثقافي في أعماق الفنان المغربي، بشتى الطرق والإمكانات، واستطاعت أن تعكس هذا الماضي، بصيغ مختلفة على الإبداع التشكيلي المغربي.
هل يعني ذلك أن الإبداع التشكيلي في المغرب وجد ذاته؟ أم أنه لا زال يبحث عن ظروف مواتية، لإثبات هذه الذات..؟ الباحثون، والنقاد، والفنانون جميعهم يطالبون بمواقف واضحة، لانتزاع حق الاعتراف، لأن التشكيل حتى الآن ظل يخاطب جمهورا معينا دون أن يتمكن من كسر الطوق الذي يتحكم فيه.
س: إصداراتكم عن الفنون التشكيلية بالمغرب، تعطي الانطباع أنكم تؤرخون لهذا المجال، ولكن برؤية فنية. فهل استطعتم الإحاطة بتاريخ هذا الفن مغربيا… أم أن الأمر يتعلق بتوجه آخر؟
ج: في واقع الأمر، وجدت نفسي منجذبا إلى هذا الفن، قبل أربعة عقود أو يزيد، من خلال عملي الوظيفي في الصحافة، لقد لاحظت مبكرا أن رواد الإبداع التشكيلي المغربي، يسعون التجدر في الطموحات، وفي التناقضات التي يعيشها مجتمعنا، وأنهم ينخرطون بوعي في التطورات التي تجري في الفكر والفن، عن طريق العمل المبدع الخلاق الذي يحمل آفاق المستقبل.
إن مثل هذه الملاحظات، دفعتني في البداية، لأبحث في جذور المسألة التشكيلية في المغرب، ولأسبح في أعماق الآثار التي مازالت قائمة على الأرض، والتي ينتمي بعضها إلى مئات السنين، ولأجد أن الفن التشكيلي كان رفيقا لمجتمعاتنا، معارضه دائمة في الدور والزوايا والمساجد والمدارس والقصور. والفنانون حاضرون باستمرار في الواجهة الحضارية… وهو ما يعني أن اللوحة التي ظهرت بصيغتها الغربية بداية القرن الماضي، لم تأت من فراغ، وأنها في ألوانها وقيمها وطروحاتها الجمالية والإبداعية، تستند على موروث تاريخي يمتد في الزمن المغربي لمئات السنين.
لربما كانت هذه العلاقة، هي التي جعلت للعديد من الرسامين والنحاتين المغاربة، فضل السبق في جعل الفن التشكيلي، يتعدى مجرد كونه هواية، وظيفة لتزكية الوقت، ربما كانت هذه العلاقة، هي التي دفعت بهذا الفن لإبراز المنابع الثرة للتخيل وللخلق والإبداع.
ألم يكن جديرا بالصحفي الباحث أن يؤرخ لهذه الحالة..؟ إن الأمر يتعلق في نظري بحركة منتجة، نابعة عن التطور الفكري للحركة الثقافية المغربية الشاملة، إنها حركة لها استعداد للدخول في مغامرة البحث والاكتشاف الحضاري، متفتحة على كل الأساليب والمدارس بإيقاع فكري متزن.
ولأن الفن التشكيلي المغربي الحديث، ولد في أحضان التحولات التاريخية والحضارية التي اجتاحت المغرب، بداية القرن المنصرم، بقي في البداية على هامش الثقافة الوطنية طيلة الفترة الاستعمارية (1912-1956) دون أن يتجدر بمفهوم شمولي في طموحاتها، بقي لصيق أفراد ينتمون لطبقات معنية، لم يستطع التداخل مع الصراعات الفكرية التي كانت مسيطرة على الساحة الثقافية خلال تلك الفترة، ولكنه بعد ذلك وجد هذا الفن نفسه على استعداد لتدارك الزمن في عهد الاستقلال، وبذل جهدا مضاعفا من أجل التعبير عن ذاته، وفرض حضوره بقوة، وهذه قضية أخرى تفرض على الباحث التوقف عندها بقراءة متأنية، لما لها من أهمية قصوى في مسار الحركة التشكيلية المغربية الحديثة.
هذا التوضيح المختصر، يزيد من عمق سؤالكم هل ما أنجزته حتى الآن ينتمي إلى التاريخ… لا أدعي ذلك… لأن الغوص في التاريخ يحتاج إلى ثقافة أخرى، وإلى أسلوب آخر.
يمكنني التأكيد هنا، أن ما أنجزته حتى الآن من كتابات حول هذا الفن، ينتمي إلى الصحافة، هو من صميم العمل الإعلامي، ولكنه بفهم سليم لمكان الإشارة واللون والحركة والخط والشكل… وهو ما يضفي على هذه الكتابات نكهة خاصة، بقدر ما تتجاذب مع قراءة اللغة البصرية، بقدرما تلتقي مع التاريخ في شروطه الموضوعية.
س: دائما كان انتشار اللوحة التشكيلية، يمثل معضلة، كيف تقيمون حركة تداولها في مغرب اليوم، حيث مازال الفقر والأمية والتهميش، تسيطر على حياتنا، هل استطاعت أن تنفد إلى المجتمع المغربي… وكيف؟
ج: كانت اللوحة وما تزال مرتبطة بالنخبة، في المغرب ولربما في مختلف أنحاء العالم، ذلك لأنها من جهة ترتبط بلغة بصرية/ وثقافة بصرية، ليست في متناول الجماهير الواسعة، ومن جهة أخرى لأن اقتنائها لا يتناسب وأصحاب الدخل المحدود، ومن تمة أصبح تداولها محدودا ومحاصرا في دائرة ضيقة، لا ينقد إليها إلا القليل القليل من الدواقين/ المجمعين/ المستثمرين.
لا يعني ذلك إطلاقا انحصار اللوحة، أو سجنها أو كسادها. لا يعني أيضا، أنها بعيدة عن الذوق العام، إنها استطاعت أن تجد لنفسها “أسواقا” مفتوحة على التنافس، تنشطها العديد من الأطراف: قاعات العرض الاحترافية/ قاعات العرض الثقافية/ قاعات العرض بالأبناك والمؤسسات الصناعية والتجارية/ إضافة إلى قاعات المجمعين والمستثمرين.
إن زبناء هذه القاعات، هم أيضا أصناف كثيرة ومتنوعة: المؤسسات الصناعية/ المؤسسات الحكومية/ المجالس المنتخبة/ الغرف المهنية/ المستشفيات والمصحات/ مكاتب الخدمات/… والمتاحف والقاعات والدور المختصة بأوربا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وهو ما حول اللوحة في العقود الأخيرة إلى “بضاعة” استهلاكية بامتياز، من الصعب تحديد رقم معاملاتها، لأنه غير خاضع للمكاشفة والمحاسبة.
نعم، إن اللوحة لم تنفد إلى البيت الاجتماعي، بيت أصحاب الدخل المحدود، والتعليم المحدود، والثقافة المحدودة ولكنها خارج هذه الدائرة، صنعت لنفسها موقعا محكما واسع النفوذ، له شيوخه وموريديه، له رواده ووسطائه المضاربين في إبداعاته، موقع الكل يتستر على أرقامه لأسباب لا يعلمها إلا الخبراء الحاضنين لأسراره.
س: ما هي علاقة السياسيين بفن اللوحة؟ هل يقومون بزيارة المعارض؟ هل يمارسون الإبداع التشكيلي؟
ج: السياسيون في بلادنا، هم النخبة، أو هكذا يفترض، لذلك نجد بيوت الزعماء والوزراء والمدراء ونواب البرلمان ورؤساء الجهات، مليئة بالأعمال التشكيلية القيمة، وهذه مسألة ليست جديدة على النخبة المغربية الجديدة، فبيوت وقصور وإقامات وزراء ورجالات الدولة في العهد الماضي (قبل الاستقلال)، تحتفظ بأعمال تشكيلية مغربية وأجنبية، ذات قيمة كبرى، فنيا وماديا، لأن الأمر كما سبق القول، يتعلق بالإمكانات الثقافية والمادية… وبالقدرة على التنافس على اقتناء التحف ذات الصيغ الجمالية الراقية، التي تناسب مواقع هذه النخبة في السلطة والحياة.
وحاليا، لا يخلو معرض تشكيلي من وجوه سياسية، فالوزراء والزعماء والنواب، يتوافدون على هذه المعارض، ويقتنون باستمرار من مراسم الفنانين، وبأثمان اعتبارية، ومنهم من شرع في تنظيم معارض لفنانين معينين في فضاءات بيوتهم.
أكثر من ذلك، تعرف الطبقة السياسية المغربية، بعض الأسماء المبدعة في المجال التشكيلي، المرحوم محمد الفاسي، (وزير الثقافة/ رئيس جامعة محمد الخامس) كان رساما فطريا، نظم العديد من المعارض لأعماله في سبعينيات القرن الماضي، ومحجوبي أحرضان (زعيم الحركة الشعبية) يعتبر من رواد الحركة التشكيلية المغربية، نظم سلسلة من المعارض ابتداء من سنة 1965 بالمغرب وأوربا وإفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوجد أعماله ضمن المجموعات الوطنية… ونادية عبد السلام ياسين، تمارس الرسم منذ عدة سنوات، وتعتبر من المبدعات في الاتجاه التجريدي، حيث وتوجد أعمالها ضمن العديد من المجاميع التشكيلية المغربية والأجنبية.
إذن علاقة السياسيين بفن اللوحة، علاقة متجدرة، ولكنها لا تتداخل مع السياسة في توجهاتها وصراعاتها وتجاذباتها، أنها مازالت حتى الآن ترتبط ب”الطبقية” أكثر مما ترتبط بالأثر الثقافي أو الإيديولوجي، وتلك قضية أخرى.