الهجرة والعنصرية… إلى أين؟
الهجرة والعنصرية… إلى أين؟
محمـد أديب السلاوي
– 1 –
- العنصرية هي كل مشاعر العداء ضد الآخر، وهي بذلك تصبح نظاما متكاملا، لممارسة قائمة من الفرضيات، تزعم أن الآخر مغاير ومختلف وأقل شأنا، وتزعم أن العامل المقرر في خصائص وقدرات البشر هو الانتماء العرقي، وأن العناصر العرقية تتفاوت نوعيا، لا من حيث الشكل فقط، ولكن أيضا من حيث القدرة الفكرية والأخلاقية والاجتماعية. والعنصرية، عبر التاريخ البشري، صنفت الناس إلى سادة وعبيد، وجعلت من مشاعر العداء ضد الآخر شريعة وسلوكا، انطلاقا من الزعم إن هناك عناصر بشرية متفوقة، وأخرى وضيعة.
والمفاهيم العنصرية، في “ثقافات” بعض الشعوب، تستند على مكون أساسي وهو التمييز العنصري، الذي يستند بدوره لمفهوم “التفوق العنصري”، وكليهما يصنف الناس على أساس “الهوية العنصرية” التي تقسم خلق الله إلى فئتين من الأجناس، الأولى متفوقة “عليا” والأخرى متدنية حقيرة ” سفلى”.
ولقد أقامت المجتمعات القديمة أنساقا ثابتة للعنصر الأصلي الذي تنتسب إليه وتتفرع عنه، واعتبرت كل دخيل عليه إنسانا/عنصرا غريبا وعدوا محتملا، يجب رفضه ومقاومته وتهميشه.
الإمبراطورية الصينية، اعتبرت كل الذين هم خارج حدودها أعداء متوحشين، وكذلك فعلت اليونان القديمة، عاملت كل شخص خارج أثينا معاملة الغرباء، لا يملك حق المواطنة.
وأنشأت الإمبراطورية الرومانية قانونا يعرف باسم “قانون الشعوب” ينظم العلاقة بين الرومان وغيرهم.
يقول التاريخ القديم، إن جذور “العنصرية” تعود إلى العلاقات التي كانت قائمة في المجتمعات التعسفية والاستغلالية القديمة، إلا أن القرن السادس عشر، عرف نقلة نوعية في المجال العنصري، حيث منحت بعض المجتمعات الأوربية لنفسها، شرعية غزو الشعوب التي تزعم أنها تنتمي إلى فئة الأجناس المتدنية، ومع تطور الظاهرة الاستعمارية، بدأت تظهر على واجهة الثقافة الغربية، تبريرات عنصرية بطابع “علمي” أحيانا، وبطابع حضاري ” أحيانا أخرى، لغزو الأجناس المختلفة الدونية حسب منظورها، وهي نفسها التبريرات التي ارتكزت عليها “النازية” و”الفاشية” و”الصهيونية” و”الأبارتيدية”، والتي اتخذتها غطاء فكريا لغرض سيطرتها على شعوب اعتبرتها “أدنى منها”. البيض اتخذوا المتاجرة بالرقيق وبيع الزنوج بالولايات المتحدة الأمريكية وبجهات أخرى بمبررات “الفوارق البيولوجية”. والنازيون الألمان، توسعوا على حساب الشعوب الأوربية والغير الأوربية الأخرى، بمبررات تفوق الدم والعرق. و”الأبارتيد” والصهيونية ركزا نظامهما العنصري في جنوب افريقيا، وفلسطين على نفس المبررات الواهية.
يقول التاريخ الحديث: أن تحرير العبيد في أمريكا وجهات أخرى من العالم، واختفاء “الدول” العنصرية من خرائط العمل السياسي، وإغلاق أسواق العبيد، وإلغاء النظام العنصري في جنوب إفريقيا، واعتراف الكثير من الأنظمة بميثاق حقوق الإنسان، لا يعني إطلاقا من الوجهة العملية، اختفاء العنصرية أو تراجعها بل العكس هو الحاصل، إذ عرفت رقعتها- في كل من أوربا وأمريكا- المزيد من الاتساع خلال العقود الأخيرة، على يد أنظمة وجماعات وأحزاب متطرفة، تدعوا إلى تصفية كل ما هو آخر، واستعمال العنف ضده بنفس المفاهيم التي كانت سائدة في الماضي.
-2-
في الدول الأكثر تقدما في الزمن الراهن، وخاصة أوروبا، وهي الأكثر إدعاء بارتباطها بالديموقراطية وحقوق الإنسان، يتحول الحلم بعالم تسوده قيم العدالة والسلام، وقيم الإنسانية، إلى كابوس أسود لا تفسير له، ولا منطق، بسبب المشاهد العنصرية المتنامية على ساحته الإنسانية.
كل دقيقة من الزمن الإنساني الراهن، تسقط ضحية بالسلاح العنصري/ تنطلق رصاصة من مسدس أو بندقية اتجاه صدر غريب/ تنطلق طعنة سكين نحو قلب مهاجر/ يحدث اختطاف طفل أو امرأة/ يحرق بيت أجنبي/ يتم طرد أسرة خارج الحدود…
وفي كل مناسبة، ترفع باروبا الديمقراطية/ اروبا حقوق الإنسان، شعارات عنصرية في وجه المهاجرين والأجانب، لا يختلف الأمر من بلد لأخر، لتؤكد أن العنصرية سلوك أخلاقي/ سلبي/ اجتماعي، يتموضع في حياة غالبية شعوب الغرب الأوروبي في زمن يرفع الكثير من الشعارات البراقة.
إن الوعي العنصري الجديد، يدفع إلى الاعتقاد بمبدأ العنصر الجيد والعنصر الرديء، وإلى ترسيخ فكرة الصفات الوراثية البيولوجية والقدرات الذكائية والمزايا الحضارية، التي لا يملكها الآخرون…وهو ما يشكل خطوة واسعة إلى الوراء.
ما يحدث اليوم بأوروبا من جرائم عنصرية، بإيقاع يومي متسارع، يفسر ظاهرة الجيل “العنصري الجديد” الذي تفجرت جرائمه مؤخرا بالعديد من العواصم، وهي ظاهرة رجعية بكل المواصفات والمقاييس والحجج.
– 2 –
- لقد حاولت أوروبا أن تقدم نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، مثالا ل”المواطنة الدولية” فجلبت ملاين المهاجرين، من العالم الفقير/ إفريقيا وآسيا للقيام بالأعمال الوضيعة أثناء تحقيق معجزتها “الاقتصادية”. وبموازاة ذلك سمحت لحليقي الرؤوس ولجماعات “النازية الجديدة” وللجماعات العنصرية، بالتسلط على السواعد المهاجرة التي بنت أمجادها الصناعية والاقتصادية، وهو ما يستعصي على الفهم والإدراك، ويتجاوز التفكير العقلاني الذي تدعي أوروبا أنها مبدعته.
إن الأحداث العنصرية التي تعرفها أوروبا اليوم، تؤكد على أن عقدة التفوق ونزعة الإمبريالية الاستعمارية، مازالت حية في عروق بعض فئاتها الاجتماعية والسياسية وأن هذه العقدة “لا تخفي نفسها بالمشهد السياسي. أو بالمشهد الاجتماعي، فهي تحرك الأفراد والجماعات، وأحداثها الدامية والقاسية والبشعة، تحرك المشاعر الإنسانية.
-3-
بالنسبة لفرنسا، وهي بلد تربطه بالمغرب وافريقيا، علاقات تاريخية عميقة، وتربطه بهما مصالح اقتصادية وتجارية وسياسية، تكاد تكون لا محدودة…ففي إطار هذه العلاقة استقبلت فرنسا ابتداء من عشرينيات القرن الماضي أعدادا من العمال الأفارقة والآسيويين من ضمنهم آلاف العمال المغاربة، للقيام بالأشغال الشاقة، التي لا يقبل عليها المواطن الفرنسي، بعد أن سهلت لهم الدخول والإقامة والعمل، حيث أصبحوا بعد ذلك عنصرا هاما وأساسيا في الإقتصاد الوطني الفرنسي…كما في المجتمع الوطني الفرنسي.
وبعدما استنفذت فرنسا أغراضها من “هؤلاء المهاجرين” ولم تعد في حاجة إلى خدماتهم، أطلقت للجماعات العنصرية ولليمين المتطرف أيديهم القذرة فيهم، وفي قضاياهم وسمحت للأحزاب السياسية اليمنية بأن تجعل منهم إيديولوجية “حارة في برامجها الإنتخابية.
وعلى المستوى الرسمي، لم تقف السلطات الفرنسية عند حد تشديد القوانين المتعلقة بالهجرة والمهاجرين، بل قامت بتصعيد حملات اللجوء إلى القمع والأساليب الزجرية، لطرد المهاجرين واعتقالهم والتنكيل بهم، وهي إجراءات تتنافى صراحة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تعود أصوله ومنابعه إلى تراث الثورة الفرنسية ( سنة 1789) مع شديد الأسف.
في حقيقة الأمر، أن “الثورة الفرنسية ” لم تضع أي حد للعنصرية الفرنسية…فهذه الأخيرة، عرفت نوعا من ” البروز” على الواجهة السياسية، في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت تعاني من ضائقة اقتصادية ومالية حيث توجهت ” الحركة العنصرية” ضد اليهود، وأخذت العجلة الاقتصادية الفرنسية، تعتمد على أغنيائهم، ولكنها خمدت بعد ذلك، بدخول فرنسا سلسلة حروب كونية، وباحتلالها من طرف “هتلر” أب العنصرية المعاصرة، في الحرب الكونية الثانية…
ولربما، لم يتوقع العالم أن تعود العنصرية بقوة إلى هذا البلد، الذي أنقدته جيوش الشعوب الإفريقية من حرائق ومآسي الحروب في النصف الأول من القرن الماضي، وأنقدته جيوش عمالها من الإفلاس الصناعي والاقتصادي في نصفه الثاني…خاصة وأنه البلد الذي يصدر “الحرية” إلى العالم من خلال ثقافته الحديثة.
والغريب في أمر العنصرية الفرنسية، أنها في نهاية القرن التاسع عشر، تسلطت على اليهود، واعتبرتهم مصاصي دماء فرنسا، وطردتهم ونكلت بهم إلى حد الوحشية، وفي نهاية القرن العشرين اتخذت من الإسلام عدوا لذوذا، وتجند ضده وضد المؤمنين به، جيوش من النازيين وحليقي الرؤوس المتوحشين، على اعتبار أن المسلمين/ الأجانب والمهاجرين فيروسا، يفسد طهارة الدماء الفرنسية.
ففي بداية السبعينات من القرن الماضي،(مرحلة ظهور الأزمة الاقتصادية الفرنسية) أخذ المجتمع الفرنسي يلفظ ما في داخل أمعائه، ليخرج منها عنصريته الراكدة، المضادة للآخرين/ المهاجرين القادمين من افريقيا وآسيا، الذين انتهت مهمتهم، ويجب التخلص منهم بأي ثمن وبأي أسلوب على حد تعبير الشعارات اليمنية الفرنسية.
وتحت ضغط الجماعات العنصرية اتجهت السلطات الفرنسية إلى طرد جميع العمال اللذين تدعي أنهم لا يتوفرون على عقود شغل ( قرار فونتاني ومارسولان سنة 1972) مما أدى إلى اضرابات عن الطعام، وإلى اضرابات ومظاهرات عمالية للمطالبة بالحد من العنصرية والتعامل اللاأخلاقي ضد الأجانب.
وفي سنة 1974، حيث انخفض الإنتاج الإقتصادي، وظهرت الملامح الأولى للأزمة المجتمعة بفرنسا، اتجهت الحكومة مرة أخرى إلى سد الأبواب في وجه العمال الأجانب، وفي مقدمتهم العمال المهاجرون المغاربة، وأصدرت مرسوم مراقبة الحدود وتوقيف الهجرة السرية.
ويمكن للباحث المهتم أن يرصد الحركة العنصرية الفرنسية في هذه الفترة، من خلال محورين واسعين الأول سياسي، والثاني تشريعي.
على المستوى السياسي: ظهر في فرنسا ( في مطلع السبعينات) شعار عنصري غريب، يصعب تصديقه، لأنه ينطلق من أرض تدعي ” إيمانها ” ب الحرية والإخاء والمساواة، يقول الشعار: فرنسا للفرنسيين والفرنسيون أولا…وهو ما جعل كل أجنبي على الأرض الفرنسية مشبوها، وأن خلاص فرنسا من الأجانب، أصبح حقيقة أكيدة.
وفي مطلع الثمانينات، ظهرت الملامح الأولى لبرامج حزب ” الجبهة الوطنية” الذي يتزعم فكرة إعادة المهاجرين عامة والمغاربيين خاصة، من حيث أتوا، وظهرت ملامح زعيمة “جان ماري لوبان” (وهو أحد الضباط الذين حاربوا في الجزائر، تم في السويس/ 1956 ولديه ملف حافل بتعذيب مدنيين جزائريين خلال حرب التحرير الجزائرية) كأحد قادة الجيل العنصري الجديد بفرنسا.
ففي إطار هذه الحركة خاض اليمين الفرنسي المتطرف معارك سياسية واجتماعية، من أجل طرد العمال الأجانب، باعتبارهم “يسرقون وظائف الشغل من “الفرنسيين” ويدخلون الخلل في النظام التقليدي العام، ويفسدون المزايا “الفرنسية” وكذلك من أجل تصفية الجنس الفرنسي الطيب المزهر، من الوصمات الأجنبية الساقطة والوسخة. والقضاء على أولئك الغزاة، الذين يفسدون على فرنسا حياتها السعيدة، وسلامتها الثقافية والحضارية..
– وعلى المستوى التشريعي، عرفت قوانين الهجرة بفرنسا تعديلات متلاحقة خلال العقود الثلاثة الماضية، تتجه جميعها نحو تصفية هذا الملف والخلاص من تركاته…نذكر منها.
– قانون باسكوا لسنة 1973، وهو يحمل إسم وزير الداخلية بالحكومة الفرنسية خلال تلك الفترة ( شارل باسكوا) الذي دخل الحكومة، ببرنامج لتصفية ملف المهاجرين المستقرين وغير المستقرين بالبلاد، بإجبارهم على الرحيل، وهو قانون يصب في اتجاه أفكار وإيديولوجية حزب “الجبهة الوطنية” الذي ظهر بارزا في انتخابات هذه السنة.
– قانون دوبري لسنة 1997 وهو يحمل اسم وزير داخلية فرنسا خلال هذه الفترة، وهو أكثر شدة، وأكثر عنصرية من سابقة.
وأن الأحداث العنصرية التي عرفتها باريس، ومرسيليا والعديد من المناطق الفرنسية خلال العقدين الماضيين، انطلاقا من مقتضيات هذا القانون، والذي قبله. والتي ذهب ضحيتها العشرات من المهاجرين المغاربة تعطي الدليل، على أن عودة العنصرية كانت عودة هادفة، تتخذ من الآخر هدفا مباشرا ترصده بكل الأسلحة الفتاكة.
يقول تقرير صحفي نشرته جريدة الغارديان (سنة 1999) كما نشرته العديد من الصحف الغربية، أن الشرطة الفرنسية وحدها تسببت في مصرع أكثر من ثلاثمائة شخص، أغلبهم من المهاجرين، بمعاملاتها السيئة واللامشروعة.
يقول استطلاع للرأي، أجراه معهد “لويس هاريس” (سنة 1999) بطلب من اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان، أن الأشخاص المنحدرين من أصول مغاربية، هم الأكثر تعرضا للهجمات العنصرية، بمعدل 75% من الإعتداءات التي وقعت بفرنسا في السنة ذاتها.
وفي غشت 2011، أعلنت الحكومة الفرنسية صراحة، عن عزمها تقليص عدد المهاجرين الشرعيين إلى نحو 20 ألفا كل سنة من أصل 200 ألف مهاجر شرعي يدخلون التراب الفرنسي سنويا، وذلك حسب ما أكده وزير الداخلية الفرنسي، كلود غيان، في حوار له نشر في العشرين من شهر غشت يحد هذه السنة (2011) على صفحات جريدة “يكسبرس” الفرنسية، مضيفا أنه يتحمل سياسة تخفيض الهجرة الشرعية وغير الشرعية بهدف ترحيل 30 ألف مهاجر مع نهاية السنة الجارية (2011).
وأكد غيان، في الحوار نفسه، إنه أعطى تعليماته لولاة المقاطعات، بأن لا هجرة إلى فرنسا لكل من لا يتقن التحدث باللغة الفرنسية، كما أن كل من رغب في الجنسية الفرنسية يجب أن يكون لائكيا وأن “الأجنبي الذي له رغبة في الإقامة في فرنسا لمدة طويلة يجب أن يقبل بالمبادئ الأساسية، مثل المساواة بين الرجال والنساء، وأن يجمعه المصير نفسه مع المواطنين الفرنسيين من أصل فرنسي”.
-4-
وبالنسبة لإسبانيا، ما كادت تسترد وعيها المسلوب، وتتلخص من ديكتاتورية الجنرال فرانكو، حتى عادت إلى ممارسة العنصرية، بشكل لا يتناسب وانتقالها إلى الديمقراطية ودولة الحق والقانون، ولكن بصفة خاصة، ضد المهاجرين المغاربة.
ومن المعروف أن إسبانيا، تمثل نموذجا حيا، لبشاعة العنصرية الغربية، فهي واحدة من الدول الأوروبية الأكثر ارتباطا بالمشاعر العنصرية اتجاه الآخرين، ومن أكثرها احتفاظا عليها، حتى في الوقت الذي انتقلت فيه إلى الديموقراطية، وشروطها وتحدياتها…فقد أوجدت جيلا جديدا من العنصرين المسلحين بالعنف والشدة والجنون مباشرة بعد اختفاء نظام الديكتاتوري الجينرال فرانكو وهو الجيل الذي أنجز أكثر من مأساة، ضد المهاجرين المغاربة في جهات مختلفة من إسبانيا (كاطالونيا/ كوبيدو/ المييريا/ مورسا/ ايل ايخيدو) ذهب ضحيتها مئات المهاجرين الذين أفنوا حياتهم في بناء إسبانيا الجديدة، من أجل العيش والكرامة، وهي المآسي تتجاوز القوانين والأعراف والقيم الإنسانية، وتؤكد على أن المشاعر العنصرية، مازالت أقوى ما تكون في النفس الإسبانية، وأن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تخفف من وطأتها.
إن ما حدث في ايل ايخيدو ( جنوب اسبانيا سنة 2000) ضد المهاجرين المغاربة من جرائم مطبوعة بالحقد الأعمى، يطرح في العمق مسألة الإرهاب العنصري والتطرف، الذي بدأ يطبع المجتمع الإسباني، في “عهده الجديد”، وتطرح إشكالية مواجهتها.
ففي هذه المدينة التي تشغل نسبة كبيرة من المهاجرين المغاربة، ذهب عشرات المغاربة ضحية للعنف العنصري (2000)، على يد حشود مدججة بكل الأسلحة اللاقانونية: قضبان حديدية/ عصى / سلاسل/ خناجر/ سيوف، وتعرضت بيوتهم ومحلاتهم التجارية إلى الإتلاف، كما تعرضت سياراتهم وأكواخهم ومقرات جمعياتهم إلى التخريب العنصري، بشكل وحشي وغير حضاري، لا لسبب سوى لأنهم مهاجرون مغاربة، ومسلمون.
والغرابة، أن العنصرية ضد المهاجرين المغاربة في إسبانيا، لم تأت فقط من طرف حلقي الرؤوس، أو الجماعات النازية، ولكنها أتت من القوانين المنظمة للهجرة (قانون 1985/ قانون 1998) التي تضع المهاجرين في دائرة مفرغة، وتجعلهم بالإضافة إلى معاناتهم اليومية والمستمرة، مع النظرة العنصرية داخل المجتمع، وتعرضهم للإهانة والاختلاف والاغتيال بأشكال مختلفة، يعانون من عنصرية القوانين ومن عنصرية الشغل، وعنصرية المدارس والجامعات، وعنصرية الشوارع والمقاهي والمحطات والأماكن العمومية، وهي أقسى أنواع الإرهاب النفسي الموجه ضد الآخر، تحت مسمى “دولة القانون”.
نشرت جريدة “المونودو” الإسبانية (17 يوليوز 1997) أن عشرة في المائة (10%) من الشباب الإسباني عنصري النزعة والتوجه.
ونشر معهد الدراسات السوسيولوجية بمدريد (سنة2000) استطلاعا للرأي، يقول أن الجالية المغربية المهاجرة إلى اسبانيا مرفوضة أكثر من أية جالية مهاجرة أخرى.
وجاء في التقرير السنوي “لمنظمة مناهضة العنصرية” أن حالات العنصرية في إسبانيا، ارتفعت بشكل خطير من طرف المواطنين الأسبان، ومن طرف القوانين الرسمية، ومن تمة أصبحت العنصرية أمرا طبيعيا في هذا البلد، وأن أغلبية الحالات تتعلق بمهاجرين مغاربة.
وندد تقرير آخر يحمل عنوان: التقرير السنوي للعنصرية في الدولة الإسبانية لسنة 2000، بالاستعمال الخبيث لقانون الأجانب، لتأليب الرأي العام ضد المهاجرين، ومحاولة إيهامه بأن إسبانيا تتعرض لغزو قادم من الجنوب (المغرب).
وأبرز التقرير المذكور، من جانب أخر، الاستغلال البشع الذي يتعرض له المهاجرون في إسبانيا، وخاصة أولئك الذين لا يتوفرون على أرواق إقامة قانونية، ما يجعلهم مهضومي الحقوق، ولا يمكنهم أن يقدموا شكايات عن أوضاعهم، حيث قارن التقرير أوضاعهم بالعبودية الجديدة.
وأظهرت دراسة لجامعة “كومليتنسي” بمدريد، تصاعد رفض الأسبان للمهاجرين المغاربيين، ولاسيما المغاربة الذي أضحوا الأقلية الأكثر عزلة في المجتمع الإسباني، وهو الوضع الذي كان يعاني منه حتى وقت قريب “الغجر”.
ومن جهتها اعتبرت الجمعية الإسبانية غير الحكومية “أس أو إس راسيزم” أن الميز الاجتماعي بهذا البلد أضحى أكثر تطورا ونصاعة، مؤكدة، وأن نسبة هامة من الشباب، تسعى للقيام بحملات “للتطهير العرقي” للقضاء على الغجر والعرب واليهود والسود والأمريكيين اللاتينيين.
وأظهرت دراسات أكاديمية أخرى، (أنجزها مؤخرا مركز الأبحاث السوسيولوجية لمدريد) أن نسبة الأشخاص الذين يتبنون ممارسات عنصرية، يمثلون نسبة عالية في المجتمع الإسباني اليوم.
– 5 –
- طبعا ليست فرنسا وإسبانيا وحدهما اللتان تفجر بهما “الجيل العنصري الجديد” فمثل هذا الجيل الشرس والعنيف في عنصريته، يتواجد اليوم في أركان أوروبا الغربية، بنسب متفاوتة، ففي جهات أوروبية مختلفة، تتجه أظافر هذا الجيل إلى المهاجرين لتهميشهم ورميهم خارج الحدود… وتتجه أفكار هذا الجيل إلى السلطة، من أجل تنظيف أوربا من الذين لا يستحقون العيش.
ويمكن للملاحظ المتتبع لتطورات الأوضاع في جهات أوروبية عديدة، ألمانيا/ بلجيكا/ هولاندا/ سويسرا/ السويد، خلال العقود الأخيرة، أن يدرك بسهولة أن العنصرية لا تخص بلدا معينا، فهي تمتد من شمال أوروبا إلى جنوبها،ولها أكثر من تأثير خارج حدودها، حيث أخذ التيار القومي الشعوبي، الذي تجسده أحزاب اليمين المتطرف، يعمل من أجل زعزعة الإتحاد الأروبي الذي يتخذ الديمقراطية والحرية والسلم والتعايش، شعارا له، وبناء أوربا جديدة، قائمة على عداء الآخر ورفضه.
أن الأحداث العنصرية العنيفة التي ظهرت على الساحة الأوروبية، في السنوات الأخيرة، وخاصة ضد الأجانب والمهاجرين، تعطي الانطباع، أن التيار القومي الشعوبي العنصري، أصبح يشكل بالفعل تهديدا حقيقيا، لا “للغرباء” فقط، ولكن لكافة التيارات السياسية الأخرى، التي ناضلت من أجل مبادئ وأفكار وقيم، دفعت بالقارة الأوروبية، بعد سلسلة من الحروب البشعة، إلى الإزدهار والتوحد والديمقراطية .
الأمل الأوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من أوجاع ومآسي وخسارات، كان هو الانتقال بأروبا من هم النزاعات العنصرية والعرقية، إلى أوروبا موحدة، يتمتع فيها الجميع بنفس الحقوق والواجبات، ويعمل في فضائها الجميع، من أجل التعايش والسلم والديمقراطية، ولكن يبدوا أن مشاعر العنصرية التي أوجدت جيلها الجديد مازالت حية في العرق… ومازالت تبحث عن امتدادات جديدة لتجعل من هذه المشاعر شريعة قائمة على الدم وعلى رفض الآخر حتى الموت.
-6-
اليوم، وبعد أن وصلت أزمة الهجرة إلى أروبا إلى ذروتها وأصبحت تندر بصراعات ومواجهات، قد تتجاوز إطارها الاجتماعي/ السياسي إلى إطار ثقافي/ حضاري/ اشمل وأوسع، أخذ المجتمع المدني المغربي، يرفع احتجاجاته بصوت مرتفع.
في يوليوز من سنة (2011)، حدر مسؤولون وخبراء مغاربة، (بمتندى أصلية) من تحويل قضية الهجرة إلى ميدان للتمييز العنصري والديني بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وانتقدوا بشدة محاولات اليمين المتطرف الأوربي الذي يحاول توظيف المنظومة القانونية للاتحاد الأوربي لتبني سياسات هجرة مبينة على الهاجس الأمني ضد الدول المصدرة للمهاجرين.
واعترف المتدخلون في ندوة حول “الهجرة وحكم القانون في أوربا”، التي نظمتها جامعة المعتمد بن عياد الصيفية ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي، أن هناك خلطا متعمدا لدى بعض المسؤولين الأوربيين بين الهجرة والإرهاب والأزمة الاقتصادية.
وأبانت هذه الندوة أن التشدد الأمني في موضوع الهجرة، من خلال تقييد إجراءات تسوية وضعية المهاجرين واللجوء المكثف للدول الأوربية إلى سياسة الترحيل الجماعي التعسفي، لا يحل معضلة الهجرة، بل سيؤجج من تدفق المهاجرين السريين والشرعيين، مما ستكون له نتائج عكسية، وأكدت الندوة ضرورة فك الارتباط بين الأزمة المالية العالمية ومسؤولية المهاجرين فيها.
في هذا السياق، دعت ندوة أصيلة، التي حضرها وشارك بها العديد من المسؤولين والوزراء المغاربة، (من ضمنهم الوزير المكلف بالجالية المغربية المقيمة بالخارج) دعت الدول الأوربية إلى تفادي سن “تشريعات تدعو صراحة إلى الحد من المهاجرين أو عبر ابتكار صيغ مغرية للتخلص منهم وإعادة ترحيلهم إلى أوطانهم دون تشاور مسبق أو تنسيق مع الحكومات المعينة”.
وعبرت هذه الندوة صراحة، عن عدم رضا المغرب بأن “تنفرد الدول المستقبلة التي تؤوي إعدادا من الجاليات المغاربية باتخاذ قرارات وإجراءات من جانب واحد بحق المهاجرين”، خصوصا أن هذه السياسات تتم في أجواء تتسم “بتأليب الرأي العام الداخلي ضد المهاجرين” رسن تشريعات ذات أقنعة عنصرية من أجل بث الخوف في نفوسهم من الأجنبي، وأكدت مداخلات هذه الندوة أن الأزمة الاقتصادية “ليست سببا مواتيا للتشريع والحسم النهائي في قضايا حرجة، إلا إذا كان ذلك مبيت بافتعال الأزمات والتهويل من حجمها، حتى تكون قناعا يخفي مبررات ثقافية ودينية وحتى إثنية”. خلقت تأثيرات نفسية بإجراءاتها التمييزية العلنية والمضمرة تحت طائلة شبح الترحيل القسري الجماعي.
من جهته أثار الوزير المكلف بالجالية المغربية المقيمة بالخارج، في ختام هذه الندوة، إشكالية تحقيق التوازن بين مبدأ السيادة وأمن الدول المستقبلة للمهاجرين وبين ضرورة وضمان حقوق المهاجرين وتفعيل مواطنة الإقامة، وقال إنه لا يجب النظر إلى الهجرة، كمصدر للمشاكل، ولكن كظاهرة إيجابية منتجة للثروات، منبها إلى أن تعقد وتنوع المشاكل الجديدة التي صارت تطرحها الهجرة، دفع أوربا إلى تقييد السياسات والقوانين المتعلقة بالهجرة ومقاربة مسألة الهجرة من زاوية ضيقة تميل إلى الخلط بين تقنين الهجرة وضبطها وبين استراتيجيات محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، وهو الخلط الذي تتغذى منه، وقد ساعد على هذا الاتجاه العنصري ضد المهاجرين، ومن بينهم أربعة ملايين مهاجر مغربي، أي ما يعادل 12% من مجموع المغاربة، وسائل الإعلام وبعض السياسيين والمثقفين في الدول الغربية الذين عملوا على تشويه صورة وثقافة المهاجرين خاصة المسلمين منهم، وهو ما خلق بنظر المغرب الكثير من التوترات الاجتماعية والتطرف السياسي والانحراف العرقي والديني، مما يجعل “مستقبل فئة عريضة من المهاجرين وأفراد أسرهم في وضعية مقلقة”، هناك تراجع لثقافة التعايش والتساكن والاختلاف مقابل تزايد المد العنصري والتمييزي واتساع رقعة التطرف وكراهية الآخر.
-7-
- إذن، هو التاريخ يعيد نفسه.
هناك عودة أوروبية إلى ماض لا نعتقد أنه يشرفها. من موقعنا، حيث نرثي لحالها وهي تشاهد بلا إرادة عودتها إلى عصر الظلمات، نوجه اهتمام حكومتنا الحالية التي تبذل جهدها وأكثر منه، لإرضاء أصدقائنا الأوروبيين، على حساب أشياء كثيرة، إن العنصرية المتنامية ضد المهاجرين المغاربة في مناطق عديدة من بلاد هؤلاء الأصدقاء، تجعل البون شاسعا بين مفهومنا للصداقة… ومفهومهم لها.
لا أريد أن أسأل: ماذا فعلت هذه الحكومة، أو الحكومات السابقة، التي شهدت عهودها أحداثا عنصرية عديدة ضد المهاجرين المغاربة بأوروبا، من أجل حمايتهم…؟ لا أريد ذلك، لأن السؤال لا يفيد مادامت السياسات الأوروبية والمغربية الرسمية مطبوعة بالتناقض الكامل في مقاربتها لموضوع الهجرة والمهاجرين، ومع ذلك ألفت نظر هذه الحكومة بالذات، إلى ظاهرة الجيل العنصري الجديد، بأوروبا… وإلى أن الأمر أصبح يتطلب حماية حقيقية لمهاجرينا بالغرب..
إن للعنصرية اليوم بأوروبا جيلها الجديد، إن لم تقاومه نسفك، وإن لم تواجهه سحقك.