الزمن… ماذا يفعل بنا في عصر العولمة؟
الزمن… ماذا يفعل بنا في عصر العولمة؟
محمد أديب السلاوي
الزمن أثمن ما تملك في الحياة، والوقت جزء من الزمن. قال عنه القدماء: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب، والزمن خارج هذه المقولات، هو ما يمتلكه كل فرد منا. يملكنا ونملكه، يمتد على حياتنا من الولادة إلى الوفاة.
ووعينا بالزمن فطري، كلنا ندرك علاقة الزمن بالحياة وشؤونها، تقدمها وتخلفها، إلا أن القليل منا من يستطيع إدراك قيمه ومسافاته وتأثيراته، وإن الزمن لا يعيد نفسه ذلك لأن الأمر يتعلق بتربية وتنشئة وثقافة كل شخص على حدة، وبإدراكه العميق، إن زمن اليوم، لا يتكرر غدا…
إن السؤال الذي تدعونا إليه هذه المقاربة، هو كيف يمكننا التفكير في الزمن، انطلاقا من أوضاعنا الحضارية، /أوضاعنا الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية. وبالمقابل كيف يمكننا التفكير في زمن يملكنا ولا نملكه..؟
****
إن الإنسان، مهما كان موقعه في الوجود، فهو محكوم بالزمن، خاضع لشروطه، يفرض عليه زمنه المحدود أن يستغل ذلك الزمن بدقة متناهية في التمتع به، واستثماره لصالحه وصالح محيطه ومجتمعه، ذلك لأن زمن الإنسان هو حياته، وخارج هذا الزمن لا توجد سوى سيادة الفناء.
والزمن يختلف من إنسان لآخر، غير أن الفلاسفة وعلماء النفس والفقهاء، في الماضي الإنساني العريق، كما في الحاضر، أكدو على أهميته وجذواه في بناء الشخصية، وفي إدارة شؤونها، وفي استثمار معارفها ومواهبها.
قال أحد حكماء الصين القدماء: كل مفقود يمكن استرجاعه إلا الزمن المفقود.
وقال أحد الحكماء العرب: إذا سمحنا بضياع الوقت عد علينا سفها وطيشا.
والسؤال المحير الذي شغل/ يشغل الباحثين والفلاسفة: كيف للإنسان أن يمزح بين القيمة الحقيقة للوقت، الذي هو عمره وحياته، والذي سيحاسب عليه وكيفية تصرفه فيه، وما قدم من خلاله لنفسه ومحيطه وأسرته وبلده..؟
وبخلاف القضايا الفلسفية الأخرى، الكثير من المفكرين وعلماء الدين وعلماء النفس والاجتماع، اهتموا يمثل هذا السؤال، ولكن القليل منهم تداخلوا معه في أبعاده الفكرية والسلوكية، على اعتبار أن الوعي بقيمة الوقت/ الزمن، هو احتياج دائم ومستمر لكافة الأشخاص، وكافة الشرائح والطبقات، ذلك لأن التواصل مع منظومة المعرفة الإنسانية، كان وما يزال يتوقف على مسألة الوقت وثقافته. وأيضا على قهر ذلك الحاجز النفسي الذي يفصل الإنسان عن وقته، وما يختزنه من قيم ومعرفة وإشارات.
هل يعني ذلك أن الإنسان ما زال بعيدا عن وقته، وعن إدراك مسافات هذا الوقت، الثقافية والبيولوجية؟
****
مفهوم الزمن يطرح في الوقت، الراهن إشكالية فلسفية/ فكرية، معقدة تستدعي إعادة النظر في قيمه ودلالاته الثقافية المتوارثة حيث أن بروز مفاهيم جديدة في الفكر الإنساني اليوم، كالعولمة والتكنولوجيا وغيرهما، تفرض علينا التأمل بعمق في الزمن وتجلياته.
هناك زمن نتطلع إليه، نتمناه، نتأمله ونريد أن نتعامل معه. وهناك زمن آخر، نعيشه في واقعنا، يتحكم في تكييف رؤانا من حيث ندري أو لا ندري فالزمن في نظر نسبية البيرت انشتاين، بعد من الأبعاد الأربعة: (الطول/ العرض/ الارتفاع) وأنه (أي الزمن) جزء من هذه الأبعاد، وأن الإنسان مهما كان موقعه في الكون، فهو خاضع للزمن النسبي، فهو في الأرض غير ذلك فوق القمر أو المريخ، وعلى هذا الأساس، فالوقت في الأرض قصير جدا، بل تافه ولا قيمة له (أقصد القيمة المادية وليس المعنوية) بالنظر إلى سعة الكون. وعمر الإنسان قصير أيضا بالنسبة إلى المراقب الأزلي! قال تعالى وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون/ صدق الله العظيم.
****
في تاريخ الثقافة العربية، كان الزمن حاضرا باستمرار في أطروحات المثقفين الأقدمين، كانت المعلقات والحكم والمعلمات، تعكس بدرجات متفاوتة من الوضوح فلسفة الزمن وقياساته وانعكاساته على الحياة…
وقد لاحظ باحث مغربي (أحمد السطاتي في أطروحته عن مفهوم الزمن في الفكر العربي/ 1980) أن زمن الماضي كان حاضرا باستمرار في وعي الإنسان العربي، يظل محمولا في ذاكرته، يعيد إنتاجه باستمرار، خلاف المستقبل الذي ظل محجوبا مغيبا لا مجال للكشف عن أسراره، إلا باللجوء إلى السحر والخرافة والأسطورة. وهو ما يعني أن الفكر العربي قبل ظهور الإسلام، بدل أن يحلل الوقع بالتحليل المعقول، لجأ إلى الخيال… ومن ثمة تحول الزمن للفاعلية والسيطرة وتحقيق مختلف الإمكانات، ليغدو مجالا للحكم والانفعال أكثر منه مجالا للفعل والفاعلية.
لربما من أجل ذلك جاء القرآن الكريم، بمنظور مغاير للزمن، فهو في كتابنا المقدس، عنصر أساسي من عناصر بناء الذات على ضوء الهداية الربانية. فهو معبر ومخبر يمارس الإنسان من خلاله واجبات الدنيا والآخرة.
في كتابه “الوقت في حياة المسلم” يؤكد الشيخ يوسف القرضاوي، أن الوقت ليس فراغا أبدا، فلابد له من أن يملأ بخير أو بشر. ومن لم يشغل نفسه بالحق يشغله بالباطل، وفي رأيه، أو الوقت نعمة كبيرة، إذا كفر العبد بها، فتح على نفسه باب الهوى، وإنقاد في تيار الشهوات، لذلك كان الإسلام وسيظل، يقيس الوقت/ الزمن، بالإنجاز الخير، ويدفع إلى توظيف الوقت في كل ما هو خير.
يعني ذلك بوضوح، أن للوقت أهمية قصوى في الإسلام، والله سبحانه وتعالى أقسم في كثير من الآيات القرآنية بالزمن، منها قوله تعالى في سورة العصر “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات”. وقوله تعالى في سورة الفجر “والفجر وليال عشر”. كما أقسم في سور أخرى بالليل والشمس وكلها مواقيت أقسم بها الله عز وجل ليظهر لعباده أهمية الوقت في حياة الإنسان، لأن الحياة ليست سوى رحلة قصيرة، وعلى الإنسان المسلم أن يغتنمها في طاعة الله سبحانه، وفيما ينفعه في الدين والدنيا، وينفع أسرته ومجتمعه.
****
في الثقافة المعاصرة، اتجه اهتمام الباحثين وعلماء التربية والفلاسفة والعلماء المختصين، إلى تركيز “تربية الزمن” في نفوس الأطفال، بالروض والمدرسة، وإلى تعميق الشعور بأهميته في الدراسة والتكوين والترفيه، بهدف جعل وقت الناشئة، وقتا إنتاجيا، يساهم في تطوير الكفاءات الذاتية، لتصبح أكثر فاعلية… ذلك أن القيمة الأخلاقية والجمالية للزمن، في نظر هؤلاء الباحثين والفلاسفة والعلماء، يجب أن تظل حاضرة في الشعور الفردي للأشخاص بمحتواها وأبعادها داخل الضمير الإنساني، من المهد إلى اللحد… وهو ما أبرز إلى الوجود ما يطلق عليه في عالم اليوم “الوقت الثالث”.
الباحثون والعلماء، يقدرون للإنسان، إنه يمتلك ثلث وقته، أي الوقت الذي يبقى خارج أوقات العمل والنوم وضرورات الحياة، وهو الوقت الثالث، وهو يختلف بطبيعة الحال، من فرد لآخر، ومن شريحة إلى أخرى، باختلاف الأشخاص والأعمار والتكوين والبيئة والعمل والمستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي… ويلح العلماء على أن يكون هذا الوقت/ الثالث إنتاجيا على مستوى قيمته الأخلاقية والجمالية.
إسلاميا، جاء الاهتمام بهذا الوقت/ الثالث، مبكرا، فأطلق عليه المسلمون الأوائل، “وقت الفراغ” وألحوا على استغلال نعمه في ما يرضي الله… على أن لا تطغى أوقاتا على أخرى، أي لا يتغلب وقت العمل على وقت ترويح على النفس، ولا وقت الواجب الديني على وقت الواجب الأسروي… ولكن من منا تعامل مع وقته وفق هذه المقاييس؟
إن الزمن في المنظور الإسلامي، هو عنصر بناء الذات الإنسانية على ضوء الهداية الربانية، ليس الزمان محنة وإنما هو امتحان، الزمن معبر ومخبر يستطيع الإنسان أن يمارس فيه حريته، ويفجر فيه إمكاناته.
****
في الزمن الراهن، كما في الأزمان الغابرة، يطرح مفهوم الزمن نفسه بحدة، أولا لأنه أصبح يرتبط بالعديد من الإشكالات والتساؤلات، وثانيا، لأنه (أي الزمن) أصبح أكثر من أي زمن مضى، ينعكس على قضايا الإنسان الفكرية والتربوية والدينية والاجتماعية، ليتحول في النهاية، إلى موضوع للتأمل والبحث والمقاربة والاستنتاج.
إن المشكلة التي تواجه التفكير البشري اليوم، والتي تواجه العالم الجديد، عالم العولمة، الذي قضى على الحدود والفواصل والعوائق التي كانت بالأمس القريب تشكل سدودا منيعة، من الصعب اختراقها أو تجاوزها، والتي قلصت الهوة بين المسافات في بعديها الزماني والمكاني، إلى حد أضحت فيه العلاقات البشرية تتم بدون رقابة. إن المشكلة تعني أن كل شيء أصبح يتم انجازه ونقله والتوصل إليه، في اللحظة ذاتها، في غياب تام للوصاية.
إن الزمن الراهن، الذي يتميز بالانفجار الاتصالاتي، الذي يعتمد على الصور والرسائل والأرقام وغيرها من المنتوجات الإلكترونية، التي تنقل الزمن من قارة إلى أخرى بسرعة فائقة، على امتداد الكوكب الأرضي، جعل من السرعة الهائلة سمة لعصرنا الحديث/ عصر العولمة/ عصر التكنولوجيا/ عصر المعرفة، بل أن هذا الانفجار قلص المسافات، وألغى الحدود بين الزمان والمكان/ بين العلاقات البشرية/ بين المسافات الجغرافية، بين الثقافات والحضارات، وهو ما جعل إنسان الجنوب يعيش زمن إنسان الشمال، وجعل غرب الكرة الأرضية مكشوفا أمام شرقها. وجعل كل شيء يجري إنجازه ونقله في اللحظة ذاتها، خارج أي رقابة أو حدود… وهو ما شكل بعدا جديدا لمفهوم الزمن، ولمفهوم العالم.
تتجسد مظاهر هذا الانفجار في ملمحين اثنين: ثورة الاتصالات التي ألغت المسافات بين الأزمنة والأمكنة، وانفجار المعلومات التي غيرت بشكل صارخ حياة الناس وأنماط عيشهم وطرائق تفكيرهم وألياتهم.
السؤال: أين موقعنا نحن المغاربة/ نحن العرب/ نحن العالم الثالث، من هذا الإنفجار الاتصالاتي/ التكنولوجي…؟
من المؤسف القول، إننا بقدر ما نوجد داخل هذا الانفجار المعرفي، نوجد خارجه، لأننا مع الأسف، مازلنا نعاني من فقر معلوماتي/ اتصالاتي، مدقع، مازلنا مستهلكين للمعلومات وأوعيتها بشكل سيء، ومازلنا نعاني من التبعية المطلقة لإنتاجية هذه المعرفة… نعاني من جهلنا ومن جهل قيمها الأخلاقية والعلمية.
لاشك أن علوم التكنولوجيا الحديثة، قد جعلت كوكب الأرض، نقطة محدودة/ مكشوفة في الزمان والمكان، وضعت للزمن مفهوما مغايرا، جعلت الإنسان يعيش في اللحظة ذاتها زمانه الذاتي وأزمنة الآخرين الذين تفصلهم عنه مسافات الجغرافيا التي يتعذر الإمساك بها، بل جعلت الإنسانية جمعاء تعيش عالما يقترب بعضه من بعض، حتى بدأت قاراته ومحيطاته المتباعدة تلامس بعضها البعض، وهو ما يضع الإنسانية جمعاء أمام قدر جديد/ تاريخ جديد/ مفاهيم جديدة للزمن… لكن ذلك لا يعني بالإطلاق تخلي الإنسان من قيمه، أو عن رؤاه الأخلاقية أو عن هويته.
إن الزمن اليوم، يعيد تشكيل الوجود داخل جوف التكنولوجيا، ولكنه لا يعيد تشكيل القيم لا داخل مفاهيم الزمن، ولا داخل مفاهيم الإنسان المحكوم بزمن محدد في حياته، وتلك مسألة تفرض علينا كأمة عربية/ مسلمة/ عالمثالثية. إعادة النظر في ثقافتنا… وفي مفاهيمنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، وفي نظرتنا للكون.
والسؤال المحير، متى وكيف لنا أن نفعل ذلك، ونحن مازلنا نشعر أننا خارج دائرة هذا الزمن، الذي كسر كل الحدود بين الأنا والآخر… بين الكائن والممكن، داخل الكوكب الأرضي الواحد؟