في زمن الانفجار الاتصالاتي
في زمن الانفجار الاتصالاتي
-
الزمن أثمن ما نملك في الحياة
و الوقت جزء من الزمن. قال عنه القدماء، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. و الوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب. و هو خارج هذه المقولات، ما يمتلكه كل فرد منا. يملكنا و نملكه، يمتد على حياتنا من الولادة إلى الوفاة.
و وعينا بالزمن فطري، كلنا ندرك علاقة الزمن بالحياة و شؤونها، تقدمها و تخلفها، إلا أن القليل منا من يستطيع إدراك قيمه و مسافاته و تأثيراته، ذلك لأن الأمر يتعلق بتربية و تنشئة و ثقافة كل شخص على حدة، و بإدراكه العميق، أن الزمن لا يعيد نفسه.
إن الإنسان، مهما كان موقعه في الوجود، فهو محكوم بالزمن، خاضع لشروطه، يفرض عليه زمنه المحدود أن يستغل ذلك الزمن بدقة متناهية في التمتع به، و استثماره لصالحه، ذلك لأن زمن الإنسان هو حياته، و خارج هذا الزمن لا توجد سوى سيادة الفناء.
و الزمن يختلف من إنسان لآخر، غير أن الفلاسفة و علماء النفس و الفقهاء، في الماضي الإنساني العريق، كما في الحاضر، أكدوا على أهميته و جذواه في بناء الشخصية، و في إدارة شؤونها، و في استثمار معارفها و مواهبها .
قال أحد حكماء إفريقيا : الزمن سيف حاد، إن لم تحكمه بقوة فتتك و انهك قواك.
وقال أحد حكماء الصين : كل مفقود نسترجعه إلا، الزمن المفقود.
و قال أحد الحكماء العرب : إذا سمحنا بضياع الوقت عد علينا سفها و طيشا.
و السؤال المحير الذي شغل/ يشغل الباحثين و الفلاسفة : كيف للإنسان أن يمزج بين القيمة الحقيقة للوقت، الذي هو عمره و حياته، و الذي سيحاسب عليه و كيفية تصرفه فيه. و ما قدم من خلاله لنفسه و محيطه و أسرته و بلده…؟
و بخلاف القضايا الفلسفية الأخرى. الكثير من المفكرين و علماء الدين و علماء النفس و الاجتماع، اهتموا بمثل هذا السؤال، و لكن القليل منهم تداخلوا معه في أبعاده الفكرية و السلوكية، على اعتبار أن الوعي بقيمة الوقت، هو احتياج دائم و مستمر لكافة الأشخاص، و لكافة الشرائح و الطبقات، ذلك لأن التواصل مع منظومة المعرفة الإنسانية، كان و ما يزال يتوقف على مسألة الوقت و ثقافته. و أيضا على قهر ذلك الحاجز النفسي الذي يفصل الإنسان عن وقته، و ما يختزنه من قيم و معرفة و إشارات .
هل يعني ذلك أن الإنسان، مازال بعيدا عن وقته، و عن إدراك مسافات هذا الوقت، الثقافية و البيولوجية؟
** ** **
في تاريخ الثقافة العربية، كان الزمن حاضرا باستمرار في أطروحات المثقفين الأقدمين، كانت المعلقات و الحكم و المعلمات تعكس بدرجات متفاوتة من الوضوح فلسفة الزمن و قياساته و انعكاساته على الحياة….
و قد لاحظ باحث مغربي ( أحمد السطاتي في أطروحته عن مفهوم الزمن في الفكر العربي/ 1980) أن زمن الماضي كان حاضرا باستمرار في وعي الإنسان العربي، يظل محمولا في ذاكرته، يعيد إنتاجه باستمرار. خلاف المستقبل الذي ظل محجوبا مغيبا لا مجال للكشف عن أسراره، إلا باللجوء إلى السحر و الخرافة و الأسطورة. و هو ما يعني أن الفكر العربي قبل ظهور الإسلام، بدل أن يحيل الواقع بالتحليل المعقول، لجأ إلى الخيال… و من تمة تحول الزمن من مجال للفاعلية و السيطرة و تحقيق مختلف الإمكانات، ليغدو مجالا للحلم و الإنفعال أكثر منه مجالا للفعل .
لربما من أجل ذلك جاء القرآن بمنظور مغاير للزمن. فهو في كتابنا المقدس، عنصر أساسي من عناصر بناء الذات على ضوء الهداية الربانية. فهو معبر و مخبر يمارس الإنسان من خلاله واجبات الدنيا و الآخرة .
في كتابه ” الوقت في حياة المسلم ” يؤكد الشيخ يوسف القرضاوي، أن الوقت ليس فراغا أبدا، فلا بد له من أن يملأ بخير أو بشر. و من لم يشغل نفسه بالحق يشغله بالباطل. و في رأيه . أن الوقت نعمة كبيرة، إذا كفر العبد بها، فتح على نفسه باب الهوى، و إنقاذ في تيار الشهوات. لذلك كان الإسلام و سيظل، يقيس الوقت/ الزمن، بالإنجاز الخير، و يدفع إلى توظيف الوقت في كل ما هو خير .
** ** **
في الثقافة المعاصرة، اتجه اهتمام الباحثين و الفلاسفة و العلماء المختصين، إلى تركيز ” تربية الزمن ” في نفوس الأطفال. بالروض و المدرسة، و إلى تعميق الشعور بأهميته في الدراسة و التكوين و الترفيه، بهدف جعل وقت الناشئة، وقتا إنتاجيا. يساهم في تطوير الكفاءات الذاتية، لتصبح أكثر فاعلية … ذلك أن القيمة الأخلاقية و الجمالية للزمن، في نظر هؤلاء الباحثين و الفلاسفة يجب أن تظل حاضرة في الشعور الفردي للأشخاص بمحتواها و أبعادها داخل الضمير الإنساني، من المهد إلى اللحد… و هو ما أبرز إلى الوجود ما يطلق عليه في عالم اليوم، ” الوقت الثالث “.
الباحثون و العلماء، يقدرون للإنسان، أنه يمتلك ثلث وقته، أي الوقت الذي يبقى خارج أوقات العمل و النوم و ضرورات الحياة، و هو الوقت الثالث. و هو يختلف بطبيعة الحال، من فرد لآخر، و من شريحة إلى أخرى، باختلاف الأشخاص و الأعمار و التكوين و البيئة و العمل و المستوى الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي… و يلح العلماء على أن يكون هذا الوقت/ الثالث إنتاجيا على مستوى قيمته الأخلاقية و الجمالية .
إسلاميا، جاء الاهتمام بهذا الوقت/ الثالث، مبكرا، فأطلق عليه المسلمون الأول، ” وقت الفراغ ” و ألحوا على استغلال نعمه فيما يرضي الله… على أن لا تطغى أوقاتا على أخرى، أي لا يتغلب وقت العمل على وقت ترويح النفس، و لا وقت الواجب الديني على وقت الواجب الأسروي… و لكن من منا تعامل مع وقته وفق هذه المقاييس؟
** ** **
في الزمن الراهن، كما في الأزمان الغابرة، يطرح مفهوم الزمن نفسه بحدة، أو لا لأنه أصبح يرتبط بالعديد من الإشكالات و التساؤلات. و ثانيا و أخيرا، لأنه ( أي الزمن ) أصبح أكثر من أي زمن مضى، ينعكس على قضايا الإنسان الفكرية و التربوية و الدينية و الاجتماعية ليتحول في النهاية، إلى موضوع دائم للتأمل و البحث و المقاربة و الاستنتاج.
إن الانفجار الاتصالاتي الذي يعتمد اليوم على الصور و الرسائل و الأرقام و غيرها من المنتوجات الإلكترونية، التي تنقل الزمن من قارة إلى أخرى بسرعة فائقة على امتداد الكوكب الأرضي، جعل من السرعة الهائلة سمه لعصرنا الحديث/ عصر العولمة/ عصر التكنولوجية/ عصر المعرفة. بل أن هذا الانفجار قلص المسافات، و ألغى الحدود بين الزمان و المكان/ بين العلاقات البشرية/ بين المسافات الجغرافية، بين الثقافات و الحضارات، و هو ما جعل إنسان الجنوب يعيش نفس لحظة إنسان الشمال، و جعل غرب الكرة الأرضية مكشوفا أمام شرقها. و جعل كل شيء يتم إنجازه و نقله في اللحظة ذاتها، خارج أي رقابة أو حدود… وهو ما شكل بعدا جديدا لمفهوم الزمن، و لمفهوم العالم.
تتجسد مظاهر هذا الانفجار في ملمحين اثنين : ثورة الاتصالات التي ألغت المسافات بين الأزمنة و الأمكنة. و انفجار المعلومات التي غيرت بشكل صارخ حياة الناس و أنماط عيشهم و طرائق تفكيرهم و آلياتهم.
السؤال : أين موقعنا نحن المغاربة/ نحن العرب/ نحن العالم الثالث من هذا الانفجار الاتصالاتي/ التكنولوجي…؟
من المؤسف القول، أننا بقدر ما نتواجد داخل هذا الانفجار المعرفي نتواجد خارجه. إننا مازلنا نعاني من فقر معلوماتي/ اتصالاتي، مدقع، مازلنا مستهلكين للمعلومات و أوعيتها بشكل سيء، و مازلنا نعاني من التبعية المطلقة لإنتاجية هذه المعرفة… و نعاني من جهلنا بقيمنا الأخلاقية و العلمية.
لاشك، أن علوم التكنولوجيا الحديثة، قد جعلت كوكب الأرض، نقطة محدودة/ مكشوفة في الزمان و المكان. و ضعت للزمن مفهوما مغايرا. جعلت الإنسان يعيش في اللحظة ذاتها زمانه الذاتي و أزمنة الآخرين الذين الذين تفصلهم عنه مسافات الجغرافيا التي يتعذر الإمساك بها،بل جعل الإنسانية جمعاء تعيش عالما يقترب بعضه من بعض، حتى بدأت قاراته و محيطاته المتباعدة تلامس بعضها البعض في الزمان و المكان. و هو ما يضع الإنسانية جمعاء أمام قدر جديد/ تاريخ جديد/ مفاهيم جديدة للزمن… لكن ذلك لا يعني بالإطلاق تحليل الإنسان من قيمه،أو من رؤيته الأخلاقية و التربوية للزمن.
إن الزمن اليوم، بفضل التطور العلمي/ التكنولوجي، أصبح يعيد تشكيل الوجود داخل جوف التكنولوجيا، و لكنه لا يعيد تشكيل القيم لا داخل مفاهيم الزمن، و لا داخل مفاهيم الإنسان المحكوم بزمن محدد في حياته . و تلك مسألة تفرض علينا إعادة النظر في ثقافتنا … و في مفاهيمها و قيمها و في نظرتها للإنسان و الكون.
و السؤال المحير، متى و كيف لنا أن نفعل ذلك، و نحن خارج دائرة هذا الزمن، الذي كسر كل حدود بين الأنا و الآخر… بين الكائن و الممكن، داخل الكوكب الأرضي… و خارجه؟