محاور الإصلاح… إصلاح المحاور
محاور الإصلاح… إصلاح المحاور
في المفاهيم السياسية تتداول الأحداث و المتغيرات و الخطب و التقارير و الإديولوجيات كلمة “الإصلاح ” في كل الظروف و المناسبات… إذ رافقت هذه الكلمة الإشعاعية الأنظمة و الحكومات و السياسات في مختلف المراحل و الأحقاب، دون أن تتغير مفاهيمها أو تتبدل دلالاتها .
و الإصلاح كموضوعة مركزية في العلوم السياسية، يعني البحث عن إمكانية تحقيق انتقال سياسي متحكم فيه.
و حسب القواميس السياسية، يعني الإصلاح، تطوير غير جذري في شكل السلطة، أو في العلاقات الاجتماعية.
و حسب قواميس العلوم الاجتماعية، الإصلاح هو رتق و ترميم ما هو موجود بغية تصحيحه و تحسينه أو منع انهياره، و هو تعديل في التفاصيل، وقضاء على خطأ من الأخطاء، و هو إجراء تحسين في النظام السياسي و الاجتماعي، دون مساس بجذورهما أو أصولهما.
و في نظر صاحب الموسوعة السياسية اللبنانية ( الدكتور عبد الوهاب الكيالي )، الإصلاح أشبه ما يكون بإقامة دعائم الخشب، التي تحاول منع انهيار المباني المتداعية.
و في نظر الموسوعة البريطانية، الإصلاح دعامة استمرار الأنظمة العريقة، و سلاحها الذي ترفعه في وجه الأزمات .
و الإصلاح كلمة براقة، ساطعة و لامعة، وظفتها الأحزاب السياسية و الحركات الدينية و المنظمات النقابية و الثقافية، في البحث الأكاديمي، و في الشعارات و البرامج و الخطب و السياسات، لدرجة جعلت منها كلمة أساسية في استمرار الأنظمة و تطوير آلياتها و خدماتها و تواصلها و برامجها الآنية و المستقبلية .
عرفت أوربا و آسيا و الشرق العربي و شمال افريقيا، ( بداية القرن الماضي )، حركات إصلاحية عديدة و متنوعة المراجع الإيديولوجية و السياسية و الاجتماعية و الدينية، اعتمد بعضها الخطاب السياسي/ الاجتماعي، و اعتمد بعضها الآخر النصوص الدينية، تتفاوت نظرتها إلى الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية و التنمية، و لكنها تتساوى في رغبتها تحقيق مجتمع الرفاه و الكرامة و الاستقرار و هو ما جعلها تتموقع بقوة في الفكر الإنساني الحديث، بعدما وظفتها النخب الدينية و السياسية و الثقافية في أدبياتها، لتصبح القناعة بها كاملة كضرورة ملحة لكل انتقال جديد يحلم به العالم الجديد.
و حسب الأطروحات الفلسفية و السياسية التي اعتنت بهذا المصطلح فإن الإصلاح سيظل، هو التغيير إلى الأفضل و الانتقال بالحياة إلى درجات أرقى في السلم الحضاري و في سلم التطور البشري، خاصة إذا تبلور في ظل شروطه الموضوعية، و في أوضاع قابلة للإصلاح و قيمه و اختياراته،فهو ليس مشروعا اختياريا للدولة أو للنخب أو للمجتمع، بل هو واقع اضطراري للدفاع عن النفس، و لمواجهة الفساد و السقوط، و تحديات المستقبل.
** ** **
مغربيا، اقترنت كلمة الإصلاح، بمقابلها كلمة الفساد، فأينما كان الفساد، كان الإصلاح بالمرصاد، حيث عرف المغرب في القرنين الماضيين ( التاسع عشر و العشرون ) دعاة و حركات للإصلاح عديدة، دعا بعضها لإصلاح القيم و المفاهيم، و دعا بعضها الآخر لإصلاح القوانين و المؤسسات و السياسات.
و مغربيا أيضا، ارتبطت كل بوادر الإصلاح، منذ القرن التاسع عشر و حتى اليوم، بوعي النخبة و قيمها، هو ما جعل الفلسفة الإصلاحية، حاضرة و قائمة على الواجهات السياسية و الإدارية و الاقتصادية و المالية و الاجتماعية، تلتقي عندها كل المطالب و التطلعات التي طبعت الحياة السياسية المغربية، خلال القرنين الماضيين. حيث ظلت هذه الكلمة/ الإصلاح مشعة، تعيش تراكم الأحداث و الخيبات والإخفاقات، على المستوى الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و العسكري و الثقافي، رافقت أحداث ما قبل الحماية كما رافقت السياسات الاستعمارية و السياسات الوطنية بعد الاستقلال، و تداخلت مع الأفكار الرجعية و التقدمية و المعتدلة. و كانت دائما هي المفردة الأكثر تحركا في الخطب و النصوص و المشاريع و القوانين و الخطط، التي تعبر عن الأزمنة و المراحل و الرجالات.
و قد تجمعت للمغرب خلال القرنين الماضيين، تراثا ضخما من المشاريع و الأفكار الإصلاحية في كل الميادين و المجالات و الاختيارات و التجارب، تعبر عن مفاهيم النخب المغربية المتعاقبة لإصلاح تستحق التأمل و المسألة، لما تفرزه من ثقافة واجتهاد و معرفة و تراكمات.
فخلال القرنين الماضيين، من عهد السلطات محمد بن عبد الله حتى عهد محمد بن الحسن، تقلبت مفاهيم الإصلاح في كل الاتجاهات، و في كل الأوضاع، و ارتبطت بكل المعارك و بكل الأحداث و التطورات التي عرفها المغرب، و ما زال يعرفها على كل المستويات، و في كل المجالات .
** ** **
في عهد الاستقلال، أولت الفعاليات السياسية و الحقوقية، و النقابية المغربية، أهمية خاصة لمسألة الإصلاح، و ربطتها بتوسيع آفاق الديمقراطية و ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان و دولة القانون، و تنظيف ساحة الدولة، على امتداد قطاعاتها الإدارية و المالية و الصناعية و الاقتصادية، من ” نفوذ ” الفساد و المفسدين،و قامت هذه الفعاليات باستقراء الإصلاحات الضرورية و اللازمة للمغرب الراهن، وأظهرت أدبياتها أن مسألة الإصلاحات، بالإضافة إلى كونها بحثا جذريا في معضلة الفساد التي تمس العديد من القطاعات، فهي أيضا تستلزم تعديلات جذرية و جوهرية في القوانين و القرارات التي تهم التطور الشامل و الكامل للبلاد، ذلك لأن الشعب المغربي الذي ينتظر الدفع بعجلة الإصلاحات أولا و قبل كل شيء، يرة أن البداية تقتضي القضاء على الفساد و تغيير وجه الفقر، و استقلال القضاء، و تحسين مستوى الإدارة و مستوى التعليم و مستوى التشغيل و مستوى الصحة و كل الخدمات الأساسية الأخرى.
إن الإصلاح،بالإضافة إلى كونه، بحثا جذريا في معضلة الفساد فهو أيضا إجراء تعديلات في قوانين تهم التطوير الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي، عملية مركبة و متداخلة بين الإداري و السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، ممتدة عبر الأجهزة و السياسات و القدرات و القرارات.
و لأنها على هذا الحجم من الأهمية، كان لابد من قناعة جماعية، و هي نفسها القناعة التي أبان عنها الرأي العام الوطني عبر أدواته في التعبير، حيث خصها باهتمامه و بتطلعاته و مقترحاته.
إن الإصلاحات في المنظور السياسي المغربي لا تعني فقط قفزة نوعية نحو المستقبل، نحو تحديث البلاد و آلياتها الدستورية و السياسية وفق مطامح الشعب المغربي و طموحاته، و لكنها أيضا تعني قفزة واسعة تقتضيها الديمقراطية ( ديمقراطية التعليم و التكوين و التشغيل و السكن و الصحة) بعدما نضجت التجربة المغربية في الممارسة الديمقراطية، لأجل ذلك كانت الدعوة صريحة في أن تتحمل كل الأطراف المعنية مسؤولياتها في الإصلاحات و أن تتحول القناعة الجماعية بها إلى أفعال، لإعطائها انطلاقتها على أرض الواقع المعاش .
إن الإصلاحات في هذا المنظور تستمد أهميتها وواقيتها من التحديات التي يواجهها الشعب المغربي بسبب الفساد الذي أحاط بمصالحه و قطاعاته، من كل جانب. و بسبب التردي الذي وصلته الأوضاع السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية/ الثقافية، من كل جانب أيضا. و هو ما يدعو إلى تكثيف جهود القوى الوطنية لجعل الإصلاحات عملا جمعويا، يمتد مفعولها إلى كافة المجالات و القطاعات و المؤسسات.
** ** **
مع ظهور فكرة الإصلاحات، بالأدبيات السياسية المغربية، على عهد الاستقلال، برزت تساؤلات عميقة و ملحة، حول القطاعات الواجب إصلاحها، و القضايا و المشاكل المرتبطة بالإصلاح،خاصة و أن أوضاع البلاد، كانت تعاني من تقهقر في كل مسارات التنمية،قطاعات التعليم و الصحة و الفلاحة و الأشغال العمومية والصناعة و السياحة و التشغيل و الخدمات، و قطاعات الطاقة و الصناعات التحويلية و المناجم، و هو ما انعكس سلبا على الميزانيات العامة للبلاد، لسنوات عديدة.
و لربما كان تكريس السلبيات، الناتجة عن تقهقر مسارات التنمية خلال تلك الفترة،هو ما جعل الحديث عن الإصلاح/ الإصلاحات، حديث عن تحديات تواجه مغرب عهد الاستقلال، فالأمر لم يكن يتعلق بإصلاح دستوري، أو بإصلاح مؤسساتي، بقدر ما كان يتعلق بإصلاح شمولي.
و في حقيقة الأمر، أن وضعا جديدا، كان سينشأ في مغرب عهد الاستقلال، من جراء متغيرات قادمة، لم يكن لها أن تعبر عن جوهرها الحقيقي، إلا من خلال ما سينتج عن الإصلاحات التي حملها عهد المرحوم جلالة الحسن الثاني إلى البلاد.
** ** **
في العهد الجديد، الذي يطمح إلى أن يسير المغرب قدما على طريق التطور و الحداثة، لينغمر في خضم الألفية الثالثة مسلحا بخصوصيته و هويته في كنف أصالة متجددة و في ظل معاصرة ملتزمة بالقضايا المقدسة… في هذا العهد تبرز كلمة الإصلاح من جديد لتحتل مكانة رفيعة في المشهد السياسي و الثقافي و الإعلامي، و لتسيطر من جديد على الخطابات جميعها .
ملك البلاد، و أحزابها، و زعماؤها، و نخبها المختلفة/ السياسية و الثقافية و الاقتصادية… يجعلون من الإصلاح محورا أساسيا، في كل خطاب، و برنامج و توصية، يربطون الإصلاح بتطلعاتهم إلى الحداثة و العصرنة و الديمقراطية، و بنظرتهم اللامحدودة إلى المستقبل.
و السؤال الذي تطرحه إشكالية الإصلاح على مغرب اليوم، متى يبدأ الإصلاح… و من أين سيبدأ، هل بإصلاح الإنسان/ المواطن…؟ أم بإصلاح الترسانة التشريعية و القانونية التي تنظم الدولة و قطاعاتها…؟ هل يبدأ الإصلاح بمعرفة الخلل الذي تعاني منه البلاد أو بمعرفة و تحضير الآليات الضرورية للإصلاح…؟
سؤال الإصلاح، يعني آلاف الأسئلة، ربما قد تحتاج من الباحثين زمنا آخر… أو إصلاحات أخرى.