الفساد و المفسدون … أية استراتيجية تخلصنا من هذا الجحيم ؟
الفساد و المفسدون … أية استراتيجية تخلصنا من هذا الجحيم ؟
إن ما تحمله أخبار الصحف و الإذاعات و وكالات الأنباء، يوميا، و على مدار الساعة، عن أخبار الفساد الاجتماعي و المالي و الاداري و السياسي في مغرب اليوم، يجعل الفساد المتعدد الصفات، أشبه ما يكون بمسلسل طويل عريض، لا حد لحلقاته، و هو ما يمثل في الآن نفسه سببا و نتيجة حتمية، لتلك الخصائص الجاحظة، التي أصبحت مؤسسات الدولة، و مؤسسات الأحزاب، و مؤسسات المال العام، و حياة المجتمع، تتميز بها، و هو ما يعني أن الفساد المتعدد الصفات، أصبح هو المرتكز الأساس، لتآكل المشروعية، على المستوى السياسي و الاجتماعي و الاداري، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان السلطة في مستوياتها المتعددة، لمضامينها و مصداقيتها و مشروعيتها.
و كلمة الفساد التي نخرت و تنخر الجسد المغربي منذ عدة عقود من الزمن، تتمتع في اللغة العربية بليونة فائقة. فهي سهلة الاستيعاب، ليست عصية الفهم، و لكنها أصبحت في وضعنا كبلد يعاني من سلبيات التخلف و الأمية و البطالة و التهميش، عصية الهضم، باعتبارها تجسد الطعن في ظهر الأمة/ التلاعب بمصالحها و قيمها/ تكسير مدونة سلوكها الأخلاقية و الاجتماعية .
و الفساد في الحياة المغربية، كلمة قاسية، لا تختفي إلا لتظهر من جديد، بسبب موجاته المتتالية و المتعاقبة التي أغارت على البلاد و العباد خلال عهد الاستقلال، حيث طبعت باستمرار السياسات الإنمائية و المشاريع الإصلاحية. وهو ما ثبت المغرب على لائحة الدول المتخلفة و الفقيرة. و جعله واحدة من الدول الأكثر تعرضا للاهتزاز و التصادم…فالفساد الذي يربط بين الاختلاسات المباشرة و غير المباشرة للمال العام من طرف دوي السلطة و النفوذ، و يربط بين نهب الامتيازات و الأوراش العمومية للدولة، و بين الفساد الانتخابي، و فساد المؤسسات الحزبية، و فساد الرشوة و استغلال النفوذ و تشريع الرواتب الضخمة و العالية،يتوازى مع كل انحطاط و تدهور …لا ترعاه سوى الأنفس المريضة التي فقدت بصيرتها وتخلت عن قيم مواطنتها.
هكذا أصبح الفساد في الحياة المغربية، قاعدة ليس لها استثناء، يتجاوز شكل الظاهرة، ليتحول إلى آلية من آليات التسيير الإداري/ السياسي/ الاقتصادي، بعد أن تغلغل في المؤسسات و المشروعات، و حولها إلى مقاولات للاغتناء اللامشروع، و التوزير، و التوظيف اللامشروع و تسلق المناصب و القيادات السياسية خارج الشرعية و الموضوعية.
و عن أسباب الفساد و أصوله، تتفق العديد من البحوث الأكاديمية، على أن ” السلطة السياسية ” هي أصل و هوية كل فساد. تعلل ذلك بالقرارات و التصرفات السياسية، للعديد من القادة و المسؤولين الذين أدت تصرفاتهم إلى تخريب المجتمعات و قيمها، و إلى إشاعة التسفل بين الشرائح و الفئات…فالسياسة لا تنحصر آثارها في القطاع السياسي، بل تمتد إلى الأفراد والمؤسسات و المجتمعاتوالقطاعات، خاصة و أن فاعليتها في كل الأمم و الشعوب، تعتمد على ” النخبة ” التي تعمل على توزيع المصالح و المسؤوليات، المتحكمة في المجتمع والقيم و الأخلاق، و الأموال فيما بينها، و هو ما يجعل ” الفساد ” ابنا شرعيا للسياسة و لنخبتها .
و بتجربة الشعوب التي نخرها سوس الفساد. ( و لنا في الوطن العربي بعض أصنافها )، فإن النخبة السياسية ” المخدومة “و التي تصل السلطة خارج المشروعية أو بواسطة انتخابات مزورة . أو في ظل ديمقراطية مغشوشة، تعطي الفساد قدرة على التوالد و التنامي و التجديد. و تزوده ” بالآليات ” التي تمكنه من فرض نفسه على البلاد و العباد، ليلقي بظلامه على مصالح الناس، أينما وجدوا و كيفما كانت حالتهم الاجتماعية و المادية.
و بحكم العلاقات لتي تفرضها السياسة على نخبتها، تصبح المصالح بين أفراد هذه النخبة خارج الشرعية و القانون. فعلى يد هذه النخبة أهدرت قيم القانون في العديد من بلدان العالم الثالث. و صودرت الحريات العامة، و غيبت الرقابة القضائية و الشعبية و ألغيت مؤسسات المجتمع المدني، لتصبح ” السياسة ” مصدرا أساسا للفساد، في أصنافه و مستوياته المختلفة.
إن اتساع الأدوار السياسية و الاقتصادية و المالية للفاعلين السياسيين، قد أدى في المغرب، و في أقطار عديدة من العالم، إلى اتساع مواز لمنظومة الفساد، … و بالتالي أدى إلى انهيارات اقتصادية و أخلاقية، ما زالت آثارها السلبية جاثمة على الأرض.
و لقد كشفت العديد من الدراسات الأكاديمية، أن الفساد الأخلاقي/السياسي/ الإداري/ المالي، هو فساد مترابط و متداخل مع ظواهر الإجرام الأخرى، المتصلة بالمجتمع ومؤسساته المختلفة ة أعني به ظواهر تجارة و تهريب المخدرات/ تجارة الجنس البشري، تشغيل الأطفال في مافيات العهارة المنظمة. و كشفت هذه الدراسات، أنه بسبب التراكم، أصبح للفساد في العالمين المتقدم و المتخلف على السواء، تقاليده و مؤسساته و سلطاته، لتصبح مكافحته صعبة و مستحيلة في العديد من الدول، إذ بلغ اليأس حدا جعل العديد من الناس بهذه الدول، يسلمون بأن المكافحة، لن تكون سوى ضرب من العبث، أو ربما كانت كالاعتراض على قوانين الطبيعة، بعدما أصبح الاعتياد على الفساد، سنة أو نهجا في العيش و في المعاملات و الخدمات و في السياسات، له القدرة أكثر مما للقوانين التي تكافحه أو تنهى عنه.
– 3 –
في جهات عديدة من العالم الثالث، منها المغرب، يتداخل الفساد مع القطاعات المنتجة و الأساسية في الدولة، و يجعل من نفسه منظومة مترابطة و متداخلة مع ظواهر الإجرام الأخرى المتصلة بالمجتمع و الأخلاق و السياسة… ليصبح ( الفساد ) ليس فقط هو الرشوة و سرقة المال العام و المحسوبية و الزبونية و الظلم، التي أغرقت بلدان عديدة من العالم الثالث في براثين التخلف، و لكن ليصبح أيضا كل صفة من صفات الرذيلة و الشر و السوء و الغبن التي تسحق المجتمع و قيمه الروحية والمادية.
و حسب منطق الدراسات العلمية و الاجتماعية، فإن الفساد عندما يتخذ شكل ” المنظومة ” يتحول إلى أداة فاعلة للقهر و الضعف والهشاشة و التهور، وإلى مرجعية مركزية للتخلف الشامل، الذي يحبط و يقضي على كل إصلاح … و على كل انتقال .
و على أرض الواقع، ساهمت ” منظومة الفساد ” إلى حد بعيد، في إحباط و تآكل المشروعية السياسية، لعلاقة السلطة بالمجتمع، في العديد من بلدان العالم الثالث، مما أدى إلى فشل مبادراتها الديمقراطية، و مبادراتها في الاستثمار الخارجي. و إلى استئثار جهة أو جهات معينة بالثروة الوطنية و بالامتيازات الاقتصادية و السياسية، و بالتالي مما أدى إلى تعميق الهوة بين الشعوب و بين طموحاتها في الانتقال و الإصلاح و التقدم.
-
و أينما وجد الفساد، وجد المفسدون
و المفسدون هم أرباب الفساد، هم الصف ” ا لقوي ” الذي يحاصر الديمقراطية و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية، و التنمية المستدامة و الحرية ودولة الحق و القانون و المواطنة. الصف الذي يدفع إلى طغيان قانون القوة، بدل قوة القانون. و إلى تمركز السلطة و المال و الامتيازات في جهة واحدة، و إلى تغييب المراقبة و المساءلة… و إلى اتساع رقعة التسفل و البغاء و الانحلال الخلقي؛ و إلى توسيع رقعة الفقر و الفاقة و القهر.
المفسدون، هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها و تناقضاتها أمام العالم. و هم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة، تعتمد كل أساليب الاحتيال و القهر و التجاوز و الإفساد و الاستغلال، من أجل تركيز أنفسهم في القطاعات و المجتمعات، و تعميق الهوة بين أوطانهم و الإصلاح و التقدم الحضاري .
و المفسدون قبل ذلك و بعده، هم فئة من السياسيين و الإداريين و الاقتصاديين و الوزراء و المسؤولين أصحاب القرار الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لا تميزهم عن الآخرين ــــ في الإدارات العمومية، و في الأبناك و صناديق الدولة، و الأحزاب السياسية و الجماعات المحلية/ القروية و البلديةـــ سوى قدرتهم على اللصوصية، و على صياغة القرارات الفوقية الخاطئة و المتعثرة التي تخدم مصالحهم الخاصة، و قدرتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين و امتهانهم و استعبادهم.
يعني ذلك بوضوح، أن الفساد ليس مقدورا علينا كما يدعي ذلك صناعه. بل هو إرادة بشرية تتقصد الفساد و الإفساد، ترعاه و تزكيه و تبرره و تدفع به ليكون قدرا محتوما. إنه ” صناعة ” لا أخلاقية، يحاول أصحابها الحصول من خلالها على أكبر قدر من المكاسب الحرام، و الامتيازات الحرام. و الأموال الحرام و السلط الحرام .
و السؤال الصعب الذي يحاصرنا، خارج كل الأقواس : أية مقاومة/ أية استراتيجية/ أية إصلاحات، تخلصنا من هذا الجحيم… جحيم الفساد و المفسدين؟
محمد أديب السلاوي