عندما يأتي الفساد
المصطفى البركي: ست إضاءات تكشف مكامن الفساد ومنظومته في المغرب
يأبى الكاتب والصحافي، محمد أديب السلاوي، إلا أن يواصل معاركه التي بدأها منذ أن أصدر كتابه “هل دقت ساعة الإصلاح ؟ ” ولا يتردد في الكشف وفضح مظاهر التخلف والانحطاط.
التي باتت تنخر كيان المجتمع المغربي وتهدد استقراره، وتسير به بخطى حثيثة نحو “السكتة القلبية “، فبعد أن تعرض بالتحليل والنقد لمظاهر سلبية ومخزية، باتت تنخر المجتمع المغربي وتهدد استقراره وكيانه ومستقبله كالرشوة، والمخدرات، وظاهرة أطفال الفقر، وتزوير الانتخابات، وعرقلة كل محاولات الإصلاح والتغيير، وظاهرة الإرهاب، التي لم تكن مألوفة في حياتنا، يحمل سلاح قلمه، مواصلا معارك الكشف والإدانة، كما فعل في مؤلفات سابقة تعتمد التعديل والتشريح منهجا، وتتغيى الوصول إلى موطن الداء وعلته، هاهو يحتفي بإصداره الجديد، بلغة أقرب إلى الكشف والمكاشفة، لغة تعري واقعا يرزح تحت معاول الهدم لا البناء يأخذ عدته الإجرائية ويقوم بتشريح للظواهر ، هنا يبحر السلاوي بمجداف الحقيقة، وليس سوى الحقيقة، كما عرفناه في كتاباته السابقة سواء في الصحافة أو التأليف، يسلط أضواءه الكاشفة على بواطن الفساد وبؤر التخلف، وكأني بالكاتب يعالج كل حالة حالة، مسترشدا بإزميل يحفر في عمق الأشياء بلغة تنتصر للعدالة ولاتحابي أي جهة أو تتسمح وتنحني أمام جبروت الفساد .
في عمله الأخير الذي يقوم على الجدة والتنوير، يتصدى لموضوع بات يشغل المواطن والدولة على حد سواء. إنه الفساد الذي شهده المغرب خلال العقود الماضية في القطاعات السياسية والاجتماعية والمالية والإدارية، الذي لم يكن مرضا ظرفيا كما يستنتج المؤلف، بل أصبح منظومة كاملة سيطرت بنفوذها على دواليب سلطة المؤسسات وحفرت لنفسها موقعا قويا وطاغيا مكنها من القضاء على أي مشروع إصلاحي أوانتقالي، بل دفع بالديموقراطية لتواجه أكثر من مأزق، وأكثر من إحباط، عطل مفعولها ورمى بأهدافها ومبادئها نحو المجهول. ويتابع أديب السلاوي في كتابه الصادر عن جريدة “الحدث ” المغربية تحت عنوان “عندما يأتي الفساد “بالشرح والتحليل، أن الفساد لم يعد ظاهرة يمكن محاربتها والتغلب عليها بسهولة، بل أصبح منظومة متكاملة ومتعددة الحلقات . منظومة مترابطة ومتداخلة مع ظواهر الإجرام الأخرى المرتبطة بالمجتمع والأخلاق السياسية ليصبح الفساد، ليس فقط هو الرشوة وسرقة المال العام والمحسوبية والزبونية والظلم ، ولكن ليصبح أيضا كل صفة من صفات الرذيلة والشر والسوء والغبن التي تسحق المجتمع وقيمه الروحية والمادية .
لكن من أين أتى الفساد وكيف جاء ؟ يرى أديب السلاوي أن الظروف التي هيأت لظهور “منظومة الفساد” وسيطرتها على المال العام تزامنت مع اختيارات دولة الاستقلال، وبناء سلطة مركزية قوية، هو ما قاد هذه السلطة إلى احتكار أهم الطاقات الموجودة في المجتمع، وإلى فرض نفسها على الآخرين على حساب القانون والمعايير الأخلاقية.
ويتابع أديب السلاوي تشريحه للفساد بالقول: ” أينما وجد الفساد، وجد المفسدون ” والمفسدون هم أرباب الفساد، الصف “القوي”الذي يحاصر الديموقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والحرية، والقانون، والمواطنة ، والذي يدفع إلى طغيان قانون القوة، بدل قوة القانون. وإلى تمركز السلطة والمال والامتيازات في جهة واحدة، وإلى تغييب المراقبة والمساءلة.. وإلى اتساع رقعة انحدار القيم والانحلال الخلقي.. ويعزز السلاوي قوله ” إن المفسدين هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها وتناقضاتها أمام العالم. وهم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة، تعتمد كل أساليب الاحتيال، والقهر، والتجاوز، والإفساد، والاستغلال، من اجل تركيز نفسها في القطاعات والمجتمعات، وتعميق الهوة بين أوطانها والإصلاح والتقدم الحضاري”. ويقربنا السلاوي أكثر من الصورة حين يشير بأصبع الاتهام إلى مكامن الفساد، والمفسدين، الذين هم فئة من السياسيين والإداريين والاقتصاديين والمسؤولين أصحاب القرار، الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لاتميزهم عن الآخرين في الإدارات العمومية وفي الأبناك وصناديق الدولة ، والأحزاب السياسية والجماعات المحلية القروية والبلدية، سوى قدراتهم على اللصوصية، وعلى صياغة القرارات الفوقية الخاطئة والمتعثرة، التي تخدم مصالحهم الخاصة، وقدراتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين وامتهانهم واستعبادهم. وقدراتهم الفائقة على تجفيف صناديق الدولة المالية، وعلى إنتاج المزيد من الفقر والاستغلال والقمع والفساد .
ولإعطاء حالات ملموسة من الواقع المغربي، يسلط الكتاب الأضواء الكاشفة، على الفساد والمفسدين، من خلال تقديم ست إضاءات، تقربنا أكثر من مناطقه وأوكاره في المغرب، وملامسة إمبراطوريته المالية الضخمة التي أصبحت تمتد كالأخطبوط عبرالبلاد، وأيضا كشف الأساليب التي تستعملها هذه المنظومة ، في ساحة السلطة والإدارة، كما في ساحة السياسة بنفوذها وقوتها المادية والمعنوية، وإعادة فتح ملفاتها التي سبق أن فتحتها السلطات التنفيذية والقضائية في المغرب، في السنوات الأخيرة، عندما طغت هذه المنظومة وتجبرت بعد أن استفادت فئة المفسدين من دعم السلطة خلال عهد الاستقلال، حين ركزت سطوتها، وتحكمها في الامتيازات والقروض والأموال، ماجعلها تنغمس في متاهات التبذير والتسيير المشوب بالخلل.
وينطلق أديب السلاوي من قناعة مؤكدة وهي أن إحالة ملفات الفساد على المحاسبة، التي ستقود إلى العدالة حتما، جزءا نافذا من الوزراء والزعماء ونواب البرلمان والمدراء وكبار المسؤولين بحكم تورطاتهم المخجلة في مالية الدولة، يجب ألا يشكل هذا أي إحراج للدولة ذاتها، ما دامت هذه الأخيرة، اختارت الديموقراطية والشفافية والنزاهة، شعارا لعهدها الجديد. وأن العمل من أجل محاربة الفساد، ليس مجرد عمل حكومي أو أمني، ولكنه عمل كل مكونات المجتمع، ومن هنا تأتي ضرور ة شحذ الأقلام الحية والغيورة، التي تريد الخير لهذا الوطن.
والبداية الصحيحة- يواصل المؤلف- تتطلب تعرية الحقائق، وفتح الملفات، ومعالجة التغيرات بقوة الشفافية والمصداقية، ذلك أن بناء مغرب جديد حداثي وديموقراطي ، يتطلب التعامل بجرأة وشجاعة وموضوعية وصرامة مع القانون، ومع الخارجين عليه، وإلا فلا معنى للقانون ولدولته..
ولان الفساد، عم واستشرى في مختلف مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية بالمغرب، فإن المؤلف يهيب بالأقلام جميعها لتسليط الضوء على مكامنه والمتسببين فيه والمستفيدين منه والساعين إليه، لأن “هذا الفساد لايمكن قراءته في سطر واحد أومعالجته بقلم كاتب واحد ” يكتب السلاوي.
ومن هنا يسلط كتاب “عندما يأتي الفساد”الضوء على الفساد والمفسدين بالمغرب من خلال ست إضاءات: الإضاءة الأولى، عالج فيها ارتباط السياسة بالفساد، حيث عرف المغرب في عهد الاستقلال على يد “النخبة السياسية ” فسادا مس مختلف مفاصل الحياة المغربية. وفي الإضاءة الثانية، طرح تساؤلا حول الترابط بين الإدارة والفساد، وهل هو ترابط أبدي ؟ ويرى أنه من الممكن الإصلاح، وأن نظرة العهد الجديد الإصلاحية تلزم الحكومة أن تجعل من الإدارة منصة لإشاعة ثقافة جديدة للتواصل داخل هذه الإدارة، قائمة على الديموقراطية وعلى دولة الحق والقانون ، ويستعرض في الإضاءة الثالثة علاقة الفقر بالفساد، التي هي علاقة جدلية تقر بأنه حيثما وجد فقر وجد الفساد، وحيثما حل الفساد خلف وراءه الفقر، وفي الإضاءة الرابعة، يطرح تساؤلا حول إمكانية محاربة الفساد ليخلص إلى القول إن ذلك ممكن إذا ماأرادت السلطة التنفيذية والتشريعية ذلك، ويضرب مثالا في ذلك عندما حركت الدولة المساطر، في حق المخالفين المتورطين في فضائح مالية كبرى، همت عددا من المؤسسات العمومية الكبرى ، أشهرها “الصندوق الوطني للقرض الفلاحي” ، و”الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي” ،و”الشركتان الفلاحيتان صوجيتا وصوديا” ،و”البنك الوطني الإنماء الاقتصادي” ، و”البنك الشعبي” ، واللائحة طويلة. وفي الإضاءة الخامسة، يطرح مسألة فعالية آليات المراقبة والتخليق وماذا تستطيع أن تفعل، ويرى أنه رغم وجود عدد من الآليات مثل “المفتشية العامة للمالية ” و “اللجنة الوطنية للحسابات ” و”المجلس الأعلى للحسابات ” و”اللجان البرلمانية لتقصي الحقائق ” فإن وضعية المغرب الحالية لم تعد قادرة على تحمل المزيد من استنزاف المال العام . وفي الإضاءة السادسة والأخيرة، يطرح قضية الإصلاح ليستنتج أن ذلك مرتبط بالتغيير، تغيير العقليات والمفاهيم ، وبما أن المجتمع المغربي رغم كل المساحيق التي تلمع وتزين واجهته يظل في العمق مجتمعا متخلفا، يعاني سلسلة أمراض منها الواضح ومنها الخفي، فإن هذا ما يجعل من” الإصلاح ” مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة.