!..ويسألونك عن التغيير
!..ويسألونك عن التغيير
محمد أديب السلاوي
في أوضاع المغرب اليوم، كما في أوضاعه بالأمس، هناك مقاربة ليس من السهل فهمها أو تفسيرها أو قراءتها على ضوء مناهج القانون والسياسية والفقه الدستوري.نظريا، يتوفر المغرب على دستور يجعل من الديمقراطية والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان، أدوات قاعدية لدولة الحق والقانون، ويجعل من حرية الصحافة وحرية التجمع، وحرية الاختيار السياسي، ومن الانتخابات ومن المؤسسات، مسالك ديمقراطية للتعبير والتعايش والانتماء والاختيار.وعمليا، يتوفر المغرب على سلطة جبارة، تبدو وكأنها خارج أوفاق هذا الدستور، تتناسل قيمها بقوة وعنف كل يوم، وعلى مدار الساعة. أوجدت منذ أن ظهر الدستور في الحياة المغربية، شبكة تملك السلاح والقرار والمال، تتجاوز كل القوانين والأعراف، تعمل على تركيز البنيات والمقومات الإدارية على حساب سلطة المؤسسات ببنياتها القانونية وقيمها السياسية والأخلاقية، تتجاوز بنفوذها وسلطاتها المفتوحة، كل التقاليد والمفاهيم والقيم، وكل القوانين المرتبطة بها.وهذه السلطة أيضا، كما كانت على عهد أوفقير والدليمي والبصري، لا تتحكم فقط في الاستشارات الانتخابية، أو في تركيبة المجالس البلدية والقروية، أو في تشكيل البرلمان والحكومات، ولكنها تتجاوز كل ذلك، إلى أحكام سيطرتها على الصحافة والأعلام، كما على صناديق الاقتراع، والصناديق المالية والبنوك والمؤسسات الاستثماراتية، حيث جعلت وتجعل منها آلة طيعة في يدها، لأحكام سيطرتها على الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، التي أصبح العديد منها –بفعل هذه السيطرة- ينغمس في “ثقافة” السلطة وأهوائها.- 2 -• إن ما يحدث يوميا على أرض الواقع، من تجاوزات، على يد السلطة، والأمن، والدرك، والقوات المساعدة، لا يعطي فقط صورة منافية لقيم الديمقراطية، ولدولة الحق والقانون ولأحكام الدستور، ولكنه يؤكد بالملموس، وبالأدلة القاطعة، أن لا الأحزاب السياسية، ولا البرلمان، ولا جمعيات المجتمع المدني، ولا الحكومة، قادرة على حماية الخيار الديمقراطي لدولة الحق والقانون، الذي تنص عليه مقتضيات الدستور، وفصوله وأغراضه، وهو ما يعني في نهاية المطاف أن الديمقراطية في بلدنا، لا تزيد عن كونها “كلام أسود على ورق أبيض”.الدستور المغربي على علاته، تكفل مقتضياته: حرية الرأي/ حرية الصحافة/ حرية التجمع وغيرها من الحريات العامة، تكفل مقتضياته: نزاهة الانتخابات، نزاهة وسلامة دولة المؤسسات، ولكن السلطة وأدواتها، و”قوانينها الخاصة” تقف بالمرصاد لكل حرية ونزاهة وسلامة، في كل وقت وحين، في القرى والمدن، في الصحف والمنتديات، والأحزاب والمنظمات النقابية، وتحول الصحافة والتجمعات والملتقيات والمجالس المنتخبة إلى ساحات تلتهم الفراغ، كما تلتهم الأخضر واليابس باسم قانونها الخاص… وباسم “الأمن الوطني” وأحيانا باسم حماية المجتمع.مقتضيات الدستور أيضا، تكفل الشغل والكرامة، والتعليم والصحة، لجميع المواطنين، ولكن عندما يتحرك العاطلين والمهمشين، والمرضى، والمطرودين من المدارس من أجل المطالبة بحقوقهم الدستورية، تواجههم السلطة بالعصى الغليظة، ولا تكتفي بتفريق تجمعاتهم، أو تشتيت مظاهراتهم المطلبية، بل تزيد على ذلك أحيانا، إعطابهم، وإعتقالهم، وتعذيبهم في المخافر والمعتقلات، وإلصاق التهم الثقيلة بهم، على اعتبار أنهم “مشاغبون” يفسدون على المجتمع أمنه واطمئنانه وراحته..!ما حدث في سيدي إيفني، وقبله في مدينة صفرو، وفي مدينة العيون، وفي مدينة القنيطرة وفي مدينة تطوان، وفي مدينة شفشاون، وفي مدينة الحسيمة خلال السنة الماضية والتي قبلها، وما يحدث يوميا في العاصمة الرباط تعتبر ه السلطة، بأجهزتها المختلفة، شغب يجب محاربته، من أجل حماية للمجتمع. الإشكال ليس في سياسة الحكومة، وليس في غلاء المعيشة، ولا في البطالة، التي تضرب حملة الشهادات والمنقطعين عن الدراسة، ولا في المهمشين، ولا في الفقر الذي يضرب الغالبية العظمى من المغاربة، ولا في الفساد الإداري والمالي، الذي يضرب مصالح البلاد والعباد، وإنما في المجتمع، الذي “يشاغب” أو يحتج على أوضاعه، والذي يطمح باستمرار إلى “السيبة” والفوضى وغيرها من الأفعال الإجرامية، والمنافية للأخلاق والقانون!!…في نظر هذه السلطة، أن ما تقوم به من مواجهات واصطدامات، يتقدم على الشارع المغربي في تبني الخيارات الإصلاحية، فهذا الشارع –في نظر السلطة- بمنظماته وأحزابه وجمعياته الحقوقية، مازالت تحكمه الفوضى والانغلاق والتعصب، فهو بما يعكسه من مظاهرات وتحركات وآراء وفوضى واحتجاج، في نظرها غير مؤهل للديمقراطية، ولا يريد أن يفرز القوى التي من شأنها حمايته من اندفاعاته العشوائية، في حين أن السلطة ترى الواقع المغربي بموضوعية، تعمل على حمايته من انفعالاته التي لا مبرر لها، بالعصى الغليظة… أي بمنتهى الواقعية!!إن اعتقال الصحفيين ومحاكماتهم والزج بهم في السجون كحل حزب البديل الحضاري، وضرب خريجي المعاهد والمعطلين بباب البرلمان، ومنع تجمعات حقوق الإنسان، وحماية المستهلك، كأحداث المدن الساخنة، كلها تمت وتتم باسم قانون السلطة. من أجل حماية المجتمع من الفوضى والاستهتار… وجميعها في نظرها تستجيب لمقتضيات الدستور، ودولة الحق والقانون. !!- 3 –• من هذه الزاوية يختلف مفهوم “التغيير”، في مغرب الألفية الثالثة عن مفاهيمه الأخرى في القرية الكونية، حيث بدأت موجات التغيير تتصاعد منذ سقوط لاتحاد السوفياتي (عام 1979)، و انهيار النظام الثنائي للقطبية، و تحول النظام الدولي إلى نظام القطبية الأحادية، الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، تهيمن على المسرح العالمي، بحكم قوتها العسكرية الفائقة و إمكاناتها المالية و الاقتصادية و التكنولوجية الفائقة أيضا. و هو ما يجعل مفهوم التغيير في العالم الحديث، مختلفا ــ عن التغيير الذي يتحدث عنه المغاربة.و إذا أردنا تحديد السمات الأساسية لهذا التغيير، على المستوى العالمي، سنجد في المقام الأول، التطوير التكنولوجي، و أثاره على صناعة الحسابات و شبكات الأنترنيت و وسائل الاتصال، و على مجالات السياسة و الاقتصاد و الثقافة، و ما يرتبط بها من قيم و سلوكيات . و في المقام الثاني و الأخير سنجد ” العولمة ” التي تعمل على إلغاء المسافات بين السياسات الداخلية و الخارجية للدول و القارات، و أثارها على تشكيل الوجه الجديد للقرية الكونية.من هذه الزاوية، تصبح كلمة ” التغيير ” غير قابلة للاختصار، و لا للقراءة المحدودة على المستوى المحلي، (مستوى الدولة القومية) ولكن مع ذلك، نجد لها موقعا متميزا في الثقافة السياسية لأجيال و نخب المغرب الحديث.- 4–• مغربيا، تسللت هذه الكلمة/ التغيير إلى جانب كلمة “الإصلاح”، إلى الخطاب السياسي المغربي في فترة ما قبل عهد الحماية في القرن التاسع عشر، حيث كانت البلاد في حاجة إلى قومة تغييرية شاملة. فكان صداها الفطري يتردد على لسان النخبة المغربية التي كانت تامل ابعاد الخطر الاستعماري عن البلاد، و لكن رغم ما حدث في مارس 1912 حيث تم عقد الحماية، و فتح أبواب البلاد أمام الجيوش الفرنسية والإسبانية، لم تختف هذه الكلمة “التغيير” من الوجود السياسي المغربي، و ضلت حية متحركة نابضة خارج المتغيرات السياسية و داخلها .و في سنة 1955 حيث استعاد المغرب استقلاله، عاش الشعب المغربي بكل فئاته و طبقاته، أحلام التغيير في اللحظات الانتقالية من عهد الحماية إلى عهد الاستقلال. بعض النخب من الشعب المغربي توفقت في طرح أسئلة الانتقال التي كان يستوجبها واقع المغرب آنداك. و بعضها الآخر اكتفى بالتفرج على لحظات الانتقال، من وضع الحماية إلى وضع الاستقلال. و ما كان مطروحا في تلك اللحظات هو الخوف من السقوط في تغيرات مغلوطة أو سطحية، تنطلق من نفس منطلقات تحقير الإرادات، و الاستخفاف بالتاريخ .- 5 –و يمر نصف قرن من زمن الاستقلال، و تبقى كلمة “التغيير” حاضرة في الحياة المغربية، رغم ما اعتراها من مواجهة و فساد و تحد.• عندما عينت حكومة التناوب التوافقي قبل سنوات( سنة 1998 )، أعلنت “التغيير” شعارا لها، باعتبار أنها جاءت من أجل إصلاح ما أفسدته السياسات السابقة، و من أجل احداث القطيعة مع أساليب التدبير العشوائي للشأن العام الوطني … وإحداث توافق فعلي بين الدستور والسلطة.و لأن ” التغيير ” في نهاية القرن الماضي أشع مفاهيمه في القواميس السياسية، و اتسعت دائرة شموليته، حتى أصبحت تشمل السياسة و الاقتصاد و المجتمع و الثقافة و القانون و كل منا حي الحياة، سيطر هذا المصطلح بقوة على خطاب هذه الحكومة، من داخل بيتها و من خارجه، ليصبح جزء منها و من برنامجها… و هو ما كان يتطلب تنقية أرض الديمقراطية من كل المفاهيم المنحرفة التي علقت بها منذ انطلاقتها مع أول دستور للبلاد سنة 1962 حتى تتمكن الدولة من أن تكون ديمقراطية، و تغيير عقلية المسؤولين عن تطبيق القانون، و تطبيق مفاهيم الديمقراطية، و أعني بهم الزعماء السياسيين و الوزراء و المدراء و الولاة و العمال و الباشوات و القواد و كل رجال السلطة… و هو ما جعل ” التغيير ” عملية شبه مستحيلة، في زمن شبه مستحيل .لربما، كانت المرة الأولى التي انتبه فيها دعاة التغيير، إلى أن هذا الأخير، هو رهان استراتيجي، لا يتحقق ب “الكلام ” و أن تحقيقه يعني قبل كل شيء إعداد البلاد و تأهيلها من أجل الإندماج في النظام العالمي الجديد و ما يطرحه من تحديات … و هو ما كان يتطلب إرادة فعلية و انخراطا حقيقيا في دولة المؤسسات و دولة الحق و القانون …. وبالتالي في عهد العولمة، بقيمه ومفاهيمه، في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.- 6 -• عندما بدأت تظهر علامات الأعياء و القنوط على حكومة التناوب التوافقي و تبين لها أن ” التغيير ” ليس شعارا مجانيا يمكن استهلاكه بسهوله و يسر، أدرك قادتها، أن المجتمع المغربي، و بالرغم من كل المساحيق التي تلمع و تزين واجهته، يظل في العمق مجتمعا يعاني من سلسلة أمراض موجعة، منها الواضح و منها الخفي، يعاني من البطالة و الأمية و الجهل و التهميش و التخلف و الفقر و الظلم والقمع، يعاني من الفساد المتعدد الصفات، يعاني من بطش السلطة وجبروتها، و هو ما يجعل من ” التغيير ” الذي يبدو أن المغاربة مجمعون عليه، عملية صعبة التحقيق، و في حاجة إلى فهم و استيعاب و إدراك …بل في حاجة إلى إرادة حديدية.أن التغيير في المفاهيم العلمية، لا يمكن أن يكون فوقيا، يمس التنظيمات و القوانين فحسب، بل هو مجموعة عمليات تهدف قبل كل شيء إلى تغيير الأفراد و الجماعات و التنظيمات و المناهج، و العقول و الإرادات. ان الأمر يعني، الانتقال من مرحلة استنفدت إمكاناتها و بدأ يطبعها الجمود، إلى مرحلة أخرى أكثر حيوية و أكثر تطورا، و أكثر استيعابا لطبيعة المرحلة. و هو ما جعل حكومة التناوب، والحكومات التي بعدها، عاجزة عن الاقتراب منه، أو التداخل معه… بل هو ما جعلها في نهاية المطاف تتخلى عن شعارها المركزي و الأساسي، و الانغماس في أوراش ” الإصلاح ” التي ورثتها بامتياز عن الحكومات السابقة… بل وهو ما جعلها في نهاية المطاف، ترحل بلا أسف، و دون أن تعطي للتغيير أو الإصلاح مفهومهما على أرض الواقع.- 7 -إن عصر السرعة المذهلة، عصر القرية الكونية المتواصلة التي أصبح الإنسان يعيش عليها بجسم واحد، و عقل واحد، و إدراك واحد، تفرض على المغرب، و على كل دول العالم الثالث، التي يرهبها ” التغيير ” و تحدياته ألف سؤال و سؤال.• أي تغيير نريد في حالتنا المتردية، التي يتكرس على ساحتها الفساد و التخلف من كل جانب؟ما الذي ينبغي علينا تغييره؟• إلى أي الأدوات نحتاج لكي نصل إلى التغيير المنشود؟• هل نحتاج إلى العقل، أم إلى الأدوات التقنية، أم إلى الإرادة؟• كيف نصل إلى الالتحام بعصرنا؟• كيف نصل إلى استئصال الفساد، و التخلف الذي يضربنا في العمق.• كيف نصل إلى تأصيل الديمقراطية و إشاعة ثقافة حقوق الإنسان في حياتنا و هويتنا؟• كيف نضع السلطة في موضعها الأصلي ونضع الدستور في موضعه الأصلي؟• هل نحتاج في ذلك إلى الموارد المالية و البشرية أم إلى الأخلاق و الإرادة… أم إلى ثقافة التغيير…؟آ لاف الأسئلة… و ” التغيير ” من خلالها يبدو ــ بالنسبة لوضعنا ــ مازال بعيدا، ليس لأنه يعني في حالتنا الصعبة، التفتح على الأفكار و التكنولوجيا و مناهج العمل السياسي / الثقافي/ الاقتصادي، الحديثة و المرتبطة بعصر العولمة التي تفصلنا عنه معالم الفساد و الزبونية و التخلف و الانتهازية التي تضرب في أعماق إدارتنا و اختياراتنا، و لكن أيضا لأن التغيير لا تتصدق به الدولة أو قادتها الكبار. إنه ضرورة دائمة بحكم منطق الحياة العادية، كلما توقف ، توقفت معه دواليب الاستمرارية و التواصل و التقدم.إن التغيير مهما كانت أسئلته ملحة أو طارئة، لا يمكن أن يكون مطلبا طارئا يطرح على الدولة التي لم تحسم بعد روح الفساد الذي يسكن معظم دواليها. فهو مطلب دائم تتطلبه الحياة في سيرورتها اللامتوقفة، حتى في الدول و المجتمعات التي تسكنها روح الفضيلة العامة، و التي لا تتردد في معاقبة الذين يمسون بها أو الذين تسول لهم أنفسهم بذلك.إن التغيير في الحالة المغربية ليس مجرد ضرورة، بل أكثر من ذلك و أبعد منه، شرط من شروط التعايش و الاستمرارية… لأجل ذلك، كانت و ما تزال شروطه كأسئلته، حادة و قاسية و محيرة على مستوى الدولة، و صعبة و مستحيلة على مستوى مؤسساتها المختلفة، و تلك مشكلة ربما ستحتاج منا إلى زمن آخر لهضمها و فهمها و قراءتها