صندوق الزكاة متى يرى النور على أرض الواقع؟
في زمن الأزمة المالية العالمية، السؤال يطرح نفسه:
صندوق الزكاة
متى يرى النور على أرض الواقع؟
الزكاة، أحد الأركان الخمسة للإسلام، قرنت بالصلاة في القرآن الكريم، عند اثنين وثمانين موقعا، كما دلت عليها عدة أحاديث نبوية شريفة، جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء بنسبة معينة، تسمى “النصاب” في لغة الفقه.
والزكاة في الإسلام عبادة مالية واجبة، معقولة المعنى، بينة الأهداف والمقاصد. في نظر الفقهاء وعلماء الدين، تطهر النفوس من داء الشح والبخل، وتعود المؤمنين البذل السخاء، وترسخ فيهم فضيلة الكرم وفضيلة شكر النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفيها حفظ للأموال وصيانتها من تطلع الأعين وامتداد الأيدي بالسرقة والغصب، وبها يسود التكافل وتزول الأحقاد الطبقية وتطهر العلاقات من البغض الاجتماعي، وتعين الفقراء والمحتاجين على تجاوز الأزمات والاندماج من جديد في نسيج المجتمع والمساهمة في تنمية وجعل قيم الرحمة والكرامة واقعا معاشا لا مجرد مبادئ حبيسة الكتب والخطب.
لهذه الأبعاد الكبيرة والنبيلة للزكاة، لم يترك أمرها للأفراد بحسب إيمانهم وتقواهم وإنما جعل تنظيمها من مسؤولية الدولة ومن مهام أمير المؤمنين ودور أولياء الأمور.
قال تعالى: {خذ من أموالكم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} التوبة (آية 103) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يلي أمر المسلمين من بعده لأخذ الزكاة من الأغنياء وردها على الفقراء. وجاء في الصحيحين: من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال له: “أعلمهم أن الله افترض عليهم من أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”.
والزكاة بالمعنى الديني، أداة أساسية لتفعيل التكافل بين مختلف الشرائح الاجتماعية/ خاصية إسلامية جعلها الإسلام، لتكون نظاما لتربية روح المسلم وضميره وشخصيته على التضامن والتآزر. لا يوجد مثيلا لها، لا عند اليهود ولا عند النصارى،/ هدفها الأساسي، ضمان الأمن والاستقرار بالمجتمع، وحماية كرامة الإنسان بالإخاء والتطوع والإنفاق القائم على القيم والأخلاق.
وإن المتأمل في موقع الزكاة في الحياة الإسلامية، سيجدها بلا شك ذات شأن عظيم في النظام الاقتصادي، إذ ما تم تطبيقها بعلم وإيمان، أي إذا أخذت بمقاييس وشروط السياسية المالية والاقتصادية للدولة.
فالعديد من الفقهاء والباحثين في القضايا الإسلامية، يعتبرون الزكاة، أداة ثقافية، من شأنها أن تلعب دورا فعالا في تحسين توزيع المال بين الأغنياء والفقراء، وتوفير حد الكفاية للمحتاجين. ومن شأنها أن تقوم بدور مماثل في الإنتاج والاستثمار لصالح الفئات الاجتماعية المحتاجة، خاصة إذا ما اتجهت إلى الرفع من قيمة الرأسمال البشري، بإنقاذه وتعليمه وتشغيله.
والزكاة تحتل مكانة بارزة في ثقافة التكافل الإسلامي، إنها ركن متميز من أركان الإسلام لا تكمل العقيدة إلا بالإيمان بوجوده، وهي عبادة من عباداته الرئيسية، تحتضن مجموعة من القيم التي لا غنى عنها للإنسان الذي يتوق إلى العدل والأمن والسعادة.
والزكاة قبل ذلك وبعده، تأتي في البناء الإسلامي، مقرونة بالصلاة سواء في كتاب الله العزيز، أو في السنة النبوية. على أنها تختلف عن العبادات الأخرى: الصلاة/ صوم رمضان/ حج بيت الله الحرام، ذلك أن هذه الأخيرة عبادات بدنية، والزكاة عبادة مالية تجسم بشكل واضح وبين لا لبس فيه، مكانة المال في الإسلام، ونظرته إليه، وإلى استخداماته لصالح الإنسان الذي جعله الله سبحانه مستخلفا ومتصرفا في أمواله.
بذلك كانت الزكاة وما تزال –حسب مفهومها اللغوي- هي تطهير المال من المغالاة في حب الإنسان إليه ومما قد يدنسه من سوء استعمال، أو من احتكار المتصرف فيه. قال تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. ولله ميراث السماوات والأرض، والله بما تعملون خبير} صدق الله العظيم آل عمران (آية 108).
وقال تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} صدق الله العظيم التوبة (آية 34 و35).
وهي حسب المفهوم الأخلاقي، بلورة قيم التضامن بين أغنياء المسلمين، قال علي كرم الله وجهه: إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقرائهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما صنع أغنياؤهم، ألا وأن الله يحاسبهم حسابا عسيرا أو يعذبهم عذاب أليما.
بذلك يكون الإسلام قد وضع حلا واضحا للفقر بالتضامن والتآزر والتكافل، بالزكوات والصدقات والكفارات والتبرعات وجعل الإسلام منها علاجا شافيا لكل الآفات والأمراض الناتجة عن الفقر وتداعياته… فالمسلم المؤمن هو الذي يؤدي ما عليه من واجب التكافل والتآزر والتضامن مع المسلمين الذين يوجدون في أوضاع اجتماعية مزرية أو يعانون من الفقر وصعوبة ضمان مستوى كريم من العيش والسكن والصحة والتعليم… فلكي تكون مسلما، لا يكفي أن تؤدي ما عليك من واجبات العبادة الجسدية، ولكن أيضا أن تؤدي ما عليك من الواجبات المادية، وفي مقدماتها الزكاة… التي هي روح التضامن مع الآخرين في الشدائد والمحن.
ولاشك، أن اتساع دائرة الفقر في بلادنا، للأسباب التي نعرفها جميعا، أصبح يتطلب بشكل ملح، حضورا دائما للتضامن وتفصيلا دائما لثقافته، لمواجهة المظاهر المؤسفة والجارحة التي حملتها رياح الفقر على أكثر من صعيد وعلى أكثر من مستوى.
وفي اعتقادنا أن بلورة ثقافة التضامن، لا يمكنها أن تأتي بنتائج إيجابية وفاعلة خارج شروطها الموضوعية، وهي إيجاد مقاربات تنموية جديدة، وتعبئة شاملة ضد كل أشكال الفساد وثقافته، مقابل تعميق القيم الإسلامية، في الوجدان الوطني.
في هذا الإطار، طالبت أصوات عديدة، في السنوات الماضية، بإخراج قانون الزكاة/ الأداة الأساسية للتضامن، وإنشاء مؤسسة لجبايتها وتوزيعها على مستحقيها بالقسطاس وفقا للمبادئ الإسلامية.
ففي نظر العلماء والمثقفين المغاربة، الذين طالبوا بإخراج هذا القانون، من شأن الزكاة أن تلعب دورا هاما إذا ما طبقت على حقيقتها، وبصفة خاصة إذا أخذت بالاعتبار في السياسة الاقتصادية والمالية للدولة، وواكبتها إجراءات تساير المنهج الإسلامي في التداول النقدي والمالي، فقد يكون لها في نظر هؤلاء العلماء، دور فعال في توفير حد الكفاية لجميع المواطنين، بما فيهم أبناء السبيل والمهاجرين واللاجئين، فإذا كان تحريم الربا يمنع قاعدة الثروات من التضخم المرضي غير العادي، وإذا كان الميراث يجزئ هرم ثروات المتوفى إلى أهرام أصغر حجما، فإن الزكاة تقوم سنويا بالاقتطاع المتواصل من حجم هذه الأهرام لفائدة من لا هرم لهم، على أن هذا الاقتطاع قليل في نسبته، لكنه قد يصبح هاما مع السنين في حالة ركود المال وكنزه(1).
ومن شأن هذه السياسة الإسلامية في تحرير المال من الكنز والاحتكار، وفي تحسين توزيعه، أن تمنع التضخم المالي، وتسهل سيولته. وقد تقوم الزكاة بدور هام في الإنتاج والاستثمار، لأنها ستسهم في الرفع من قيمة الرأسمال البشري بمساعدة القادرين من الناس على العمل، وتأهيلهم ليصبحوا منتجين بدل أن يلبثوا عاطلين وعالة على المجتمع. وإن كثيرا من الفقهاء المعاصرين أجازوا منح قروض من أموال الزكاة لتشجيع العاملين على المبادرة والتحرك في سبيل الإنتاج وهذا ما يساعد على إنعاش المجالات الاقتصادية المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة ومهن حرة نافعة.
إن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم آجر كبير} الحديد (آية: 7) وكل إنسان عضو في مجتمع ما إلا وله حق في هذا المال لأن الحياة المشتركة في المجتمع مبنية على التضامن في المصالح والتعاون في السراء والضراء، وكل عضو محتاج بصفة أو بأخرى إلى الآخرين، وحتى مبدأ تكافؤ الفرص الذي يزعم النظام اللبيرالي أو الرأسمالي أنه يمكن الجميع من العمل والربح والحياة العادية، إنما هو نسبي وغير متيسر التطبيق في غالب الأحيان لما بين الأفراد من فروق في الأوضاع الأسروية والظروف الاجتماعية والثقافية والذاتية من حيث سلامة الجسم والقدرات الفكرية والوجدانية، وقد يكون مصدر عدم تكافؤ الفرص والأوضاع من عند الله الذي يخلق ويرزق كيف يشاء، أو من المجتمع نفسه حيث يصبح المواطن ضحية لظلم المجتمع أو لحادث مهني أو لسوء تدبير الأمور، فينتج عن ذلك عاطلون أو متسولون أو مهاجرون أو مرضى نفسيون. في جميع هذه الحالات يقتضى العدل والتضامن والأخذ بيد ذوي الحاجة، سواء كانت ظرفية أو دائمة كالعجز الظرفي بحكم الطفولة أو التقدم في السن، أو العجز الدائم بحكم الفقر والآفة الجسمية أو النفسية.
والسؤال اليوم، وبعد ظهور الأزمة المالية العالمية، وظهور تداعياتها علينا، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ألا يحق لنا أن نعود إلى أصولنا الإسلامية: الا تنفع الزكاة كفرض ديني، وحل اجتماعي/ اقتصادي، لهذه الأزمة وتداعياتها؟
لماذا لم نخرج صندوق الزكاة إلى النور حتى الآن؟
ما هو دور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في إخراجه إلى الوجود..؟
ما هو دور العلماء وهيئاتهم المتعددة، في بلورة قانون هذا الصندوق ؟
محمد أديب السلاوي
(1) – محمد بلبشير الحسني/ الزكاة ترمز إلى مجموعة من القيم كالعدل والحق وحفظ الكرامة.
– جريدة الحركة/ 22 مارس 2002 ص:5.