!…فقر السياسة، سياسة الفقر
!…فقر السياسة، سياسة الفقر
الفقر كلمة باهظة و قاسية و ثقيلة و مرعبة، تسكن الإنسانية بقوة الواقع، و بقوة السياسيات و الظرفيات المحلية و العالمية المتعاقبة. فهو ( أي الفقر ) ظاهرة قديمة جديدة في التاريخ البشري، تتقلص و تتسع في الشعوب حسب ظروفها و سياساتها و أنظمتها الداخلية و الخارجية. و هو ليس حالة واحدة، بل حالات متعددة الصفات و الأشكال، تختلف من نظام إلى نظام، و من قارة إلى أخرى. و من حضارة إلى حضارة، إلا أن عهد العولمة، و ضع للفقر تعريفات و تحديدات، قد تتناسب وحالات الفقر المنتشرة بقوة في أركان الأرض، من حيث الأرقام، و لكنها قد تختلف في آثارها على الإنسان في هذه الأركان.
ورد في القاموس : الفقر ضد الغنى، و الفقير هو من يجد القوت، بينما المسكين من لا شيء له. وورد في تعبير آخر: الفقير هو المحتاج، و المسكين من أذلته الحاجة.
و جاء في مفاهيم البنك العالمي : الفقير هو الذي لا يحصل على الحد الأدنى من معيشته.
و بالنسبة لهيئة الأمم المتحدة : الفقير هو الذي لا يتجاوز دخله دولارا واحدا في اليوم .
و يرى خبراء علم الاجتماع : أن لظاهرة الفقر، أكثر من علاقة بالفساد. الفقر خلل في البناء الوظيفي الاجتماعي. و هو إحباط اجتماعي، ناتج عن عدم المساواة، لذلك أصبح يندرج في خانة الفقراء، العديد من الفئات، مثل المعدمين الذين لا يملكون شيئا، و العمال الأجراء ممن يملكون قوة العمل لا غير، و أيضا صغار الملاك و صغار التجار و صغار الموظفين و الحرفيين و الباعة المتجولين، و غيرهم من مظلومي السياسات الجائرة.
و في نظر باحث مغربي : لا ينحصر مفهوم الفقر في ضعف نسبة الدخل، بل يتعدى ذلك إلى التفاوت في فرص الإندماج في المجتمع اقتصاديا و اجتماعيا، إذ تتجلى مظاهره في صور متعددة، منها بالأساس : الأمية و الجهل و البطالة و تشغيل الأطفال و التشرد و التسول.و ضعف القدرة الشرائية و سوء التغذية و المرض .
و بالنسبة للمغرب، أعلن ” التقرير الوطني حول السياسة السكانية ” قبل عدة سنوات أن نسبة الفقر بالمغرب وصلت إلى تسعة عشرة في المائة (19 % )و إن سبعمائة و ثمانين ألف ( 780000) أسرة تعيش فقرها المدقع في تجمعات سكنية غير لائقة، بأحياء الصفيح و بمساكين هامشية.
و يفيد هذا التقرير أيضا أن تراجع نسبة نمو الدخل الفردي إلى 0.1 % يعود أساسا إلى السياسات الفاشلة . إلى الجفاف و فقدان العمل و البطالة طويلة الأمد و المرض المزمن و الترمل و الطلاق و غيرها .
و يفيد هذا التقرير: أن سكان العالم القروي، أكثر فقرا من سكان العالم الحضري، و أن جهات في وسط و شرق و غرب المغرب هي الأكثر تضررا من الفقر كما أن الأسر التي تعيلها النساء و الأطفال تعد الأكثر فقرا.
و تقدر مصادر مغربية شبه رسمية، أن عدد السكان الفقراء الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، قد يصل إلى ست ملايين نسمة، يمثل سكان العالم القروي منهم حوالي سبعين في المائة( 70 % ) .
و تفيد العديد من البحوث العلمية حول الفقر في المغرب أن الدخل الفردي للمغاربة تطور بوثيرة منخفظة خلال التسعينات من القرن الماضي. و يمكن اعتبار ارتفاع البطالة في المدن خلال الفترة الراهنة إشارة واضحة لانخفاض دخل الأسر المغربية، خاصة تلك التي يكون الراتب الشهري هو المورد الوحيد الذي تعتمد عليه في تلبية حاجياتها الأساسية.
و تبرز معطيات البحوث حول مستوى العيش، و البحوث حول استهلاك و نفقات الأسر التي أنجزتها وزارة التوقعات الاقتصادية و التخطيط بالمغرب،في السنوات القليلة الماضية، أن نفقات أغلب السكان تقترب من عتبات الفقر، و توضح أن الفقر النقدي المطلق، أصبح يصيب واحدا من أصل خمسة مغاربة في الوسط القروي وواحد من اصل عشرة بالعالم الحضري.
هكذا، تؤكد العمليات الإحصائية، و بحوث الخبراء و التخصصين، أن ما يقرب من ثمانين في المائة ( 80 % ) من الأسر المغربية، تعيش فقرها بصمت. و هو أمر لم يندهش له أحد، لأن الذين قاموا بالعمليات الإحصائية و قدموا معلوماتها التفصيلية، يعلمون أكثر من غيرهم، أن عوامل شتى تضافرت على مر السنين، لم يكن لها سوى خلق المزيد من الفقر، بالنسبة للفئات الواسعة من المواطنين.
و بالنسبة للمحللين الإقتصاديين، أن حالة الفقر التي تفجرت في المجتمع المغربي على مراحل، و بإيقاع تصاعدي، لم تسند فقط على مؤشرات النمو الديمغرافي الغير خاضعة لأي تخطيط، و لكنها أيضا ركزت على السياسات الفاشلة، و على الفساد الإداري و المالي. و بالتالي على عدم توجيه الاستثمارات إلى القطاعات المنتجة، التي تعتمد التوازن و الفاعلية . كما استندت على الإشكالية التي طبعت و تطبع علاقةالجماعات و الأفراد بالدولة.و على إشكالية تهرب القطاع الخاص من تحمل مسؤولياته. و على الفساد المتعدد الصفات و الأهداف، الذي طبع مرحلة هامة من التاريخ الإداري و المالي و السياسي للبلاد.
و لا شك أن الارتفاع الفاحش للمديونية الخارجية،كارتفاع الفاتورة الطاقوية، و سقوط الأسعار العالمية لكثير من المواد الأولية ( منها اسعار الفوسفاط الذي يعتبر المنتوج الأساسي للبلاد )كارتفاع أسعار فوائد القروض، عوامل إضافية أخرى، قلصت حتما ما كان بالإمكان استثماره في المنتجات الوطنية. و هو ما كرس حالة الفقر المتفجرة إلى جانب ظواهر الفساد الأخرى، لتصبح النتيجة ثقيلة و مرعبة.
هكذا استمرت مؤشرات الفقر في الصعود، رغم العمليات الوقائية و الترقيعية التي واجهت الفقر، حيث عملت السلطات الحكومية بسياسة التقشف و تقويم الحسابات، لكن تصعيد وثيرة الفساد الإداري، المالي/ السياسي، ( انتشار الرشوة و نهب المال العام و فساد المؤسسات العامة، و تزوير الانتخابات…) أدى إلى إفراز طبقة صغيرة من الأثرياء الجدد و طبقة غير محدودة من الفقراء الجدد، خارج كل منطق و كل عقلانية سياسية.
إذن، لهذه الأسباب يحسب المغرب بثرواته البشرية و الفلاحية و البحرية و المناخية و السياحية، على لائحة البلدان الفقيرة. مع أن الواقع يقول عكس ذلك تماما.
المغرب بلد زراعي، تغطي أراضيه الصالحة للفلاحة أو القابلة للإستصلاح، ملايين الهكتارات. و كان من المفترض أن تحقق فلاحته الاكتفاء الذاتي في التغذية/ في الحبوب و الزيتيات و السكريات و اللحوم و الألبان، و غيرها من المواد التي أصبح يستوردها علانية، و بلا رقابة أحيانا.
و المغرب بلد بحري شواطئه طويلة وعريضة، و تطل على بحرين عظيمين ( الأطلسي و البحر الأبيض المتوسط )، و ثرواته السمكية لا تحصى، و لا تعد، تقول الأرقام إن البحر المغربي قادر على تزويد المغاربة بمليوني طن من الاسماك سنويا وأن قطاع الصيد البحري المغربي قادرعلى تشغيل أزيد من نصف مليون من المواطنين.
و المغرب بلد منجمي، يملك 60% من الإحتياطي العالمي من مادة الفوسفاط …و يملك مناجم الحديد و النحاس و الفضة و الحامض الفوسفوري و الأورانيوم و الصخور النفطية …و ربما النفط نفسه.
فكيف لبد على هذه الصورة من الثراء، يملك ثروات الأرض و ثروات ما في باطنها، يملك البحر و ما يحويه في باطنه. و يملك الإنسان و طموحاته ووطنيته، و هو مسجل على لائحة الفقراء… وعلى لائحة البلدان الأكثر فقرا؟…إنها معادلة ” صعبة ” حقا… و لكن الفقر حقيقة لا مناص منها.
تقول كتب التاريخ والجغرافيا، أن المغرب بلد غني بموارده الطبيعية و البشرية، وبأراضيه الزراعية. و بمصادره المائية و بثرواته البحرية و المعدنية. و تقول تقارير الباحثين و الدارسين، أن المغرب واحدا من بلدان العالم الفقيرة. يعاني من أزمات متعددة و متداخلة أخطرها الأزمات التي يبدعها الفساد و المفسدون. أزمات تعيقه عن السير، و عن القفز و عن المغامرة .
فأين تغيب المعادلة و أين تحضر؟ و لماذا نحن أغنياء بمواردنا و فقراء في واقعنا؟
سؤال نطرحه مباشرة على الذين يخططون …و ينفذون نيابة عنا، و نيابة عن الأغلبية، الصامتة في بلادنا .