الدكتور محمد الوكيلي الأبواب الأربعة للرشوة عند “محمد أديب السلاوي” وأسئلتها المشرعة
عودنا الكاتب والصحافي محمد أديب السلاوي، خلال العقدين الأخيرين، أن يسير بوتيرته في الكتابة، وفي معايشته الهم اليومي من سريع إلى أسرع، وبأسلوبه في مناقشة قضايا الوطن من حسن إلى أحسن، فكأنه يتجه بعقله وقلبه نحو حالة شباب متجدد يهيمن عليه حماس نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وكأن هناك سرا ما، يجعل صاحبنا “أديب” ذا نكهة أطيب في التفكير والكتابة.
دفعني إلى قول ما قلته، تطور نمط الكتابة عند هذا الأديب “الفايق” وجمعه فيها بين الأسلوب الترتيبي والتبويبي القديم، الذي كنا نلتذ بالغوص فيه لدى كتاب قدامي أمثال القيشري في رسالته، والشهر ستاني في ملله ونحله… وغيرهما، لا أذهب هنا إلى التشبيه ولا المقارنة، فالموضوعات مختلفة، كذلك الأرضيات والميول والصياغات والحبكات الكلامية… وإنما أردت أن أنبه إلى طريقة هؤلاء في تبويب الموضوعات التي انكبوا على التأليف فيها، وتقسيمها وتجزئها إلى فصول وتفاصيل يكاد الواحد منها أحيانا أن يبارح أديم صفحة أو صفحة ونيف. أقول، إنه جمع بين هذا الأسلوب في التبويب، وبين نزق الكتلة العصرية، التي لا ترتاح إلى ترتيب المناقشة إلى مقدمتين، أولى وثانية ونتيجة كما في المنطق، ولا إلى تشنيف الأذهان والاستهلالات وبأشكال التمهيد المتاحة من مداخل وتوطئات…إلخ، وإنما تنط بين الفكرة والفكرة، وبين الطرح والأخر غير آبهة سوى بالهدف المرسوم منذ أول وهلة والمطلوب إصابته بأي وسيلة وبكل الوسائل.
هكذا إذن، يأتي كتاب محمد أديب السلاوي حول الرشوة في المغرب، وأسئلتها المعلقة جامعا بين نمطي الكتابة المذكورين والمتعارضين وكأن صاحب الكتاب يقول لنا من خلال ذلك ضمنيا:
“أنا على الصورة التي تحبون أن تسمعون بها، عتيقا رتيبا إذا أحببتم، وحداثيا إلى حد النزق إذا بدا لكم ذلك!”
لنر الآن جانبا من هذا العمل: إن المؤلف، من هذا المنظور، يقسم كتابه إلى أربعة أبواب تحكمها أربعة أسئلة رئيسية كالتالي:
الباب الأول:
ما هي الرشوة في اللغة والشريعة والقانون؟ ويجيب المؤلف على هذا السؤال الأول من خلال فصول مقتضبة ولكنها مركزة، يعرف بالرشوة لغة واصطلاحا، فتصورها كفعل ينم عن فساد الأخلاق والذمم وعن خيانة الأمانة، والإخلال بالثقة في عدالة الإرادة الحكومية ونزاهتها، ثم يعرف بالرشوة على صعيد القانون الوضعي، فيقدمها كخرق سافر للنصوص المنظمة للعلاقات داخل المجتمع، والمبنية على مبادئ احترام حقوق الأفراد والجماعات وعلى حق الدولة في إدارة الشأن العام بطريقة تضمن للمواطنين حدا أقصى من العدالة ومن تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات والالتزامات، ثم يتناول الرشوة من خلال القانون المغربي، فيعرفها بأنها كل طلب أو قبول لعرض أو وعد أو تسليم لهدية أو هبة أو أي فائدة أخرى من أجل القيام بعمل أو الامتناع عنه طالما كان هذا العمل غير مشروط بأجر، ثم يتطرق إلى الرشوة كفعل يستهدف الموظف المغربي أو ينتج عن إرادة هذا الموظف، حيث تتصف الرشوة بوصف الاتجار المكشوف في الوظيفة العمومية المعهود لها قانونا بتقديم خدماتها للمواطنين مجانا ودون أي مقابل، إذ الإدارة تستخلص مقابل كل الخدمات مسبقا عن طريق الرسوم والجبايات والضرائب، وهذا يقرب الرشوة في نظر القانون المغربي من جريمة استغلال النفوذ وخيانة الأمانة والشطط… وأخير تقدم فصول هذا الباب الرشوة من خلال مثول قضاياها المتعددة والمتنوعة لدى محكمة العدل الخاصة، حيث يظهر من خلال الفقرات المخصصة لهذا السؤال الفرعي أن حجم الملفات التي يتابع فيها موظفون عموميون بتهمة الارتشاء ليس متمشيا ولا مناسبا لحجم انتشار هذه الآفة على صعيد الواقع المعاش، بل أن الملفات المطروحة على أنظار هذه المحكمة لا تدين سوى صغار الموظفين، أكباش الضحية، من المبتزين اليوميين للمواطن العادي وهو يطلب قضاء غرض إداري عادي ويسير لا يحتمل أساسا أي تماطل أو مضاربة، وهنا يلاحظ المؤلف أنه لم تعرض على “محكمة العدل” المختصة في قضايا الرشوة، سوى 1260 قضية، وأن الملفات التي يتابع فيها الموظفون العموميون لا تتعدى 268 قضية مما يفسح المجال للتساؤل عن نجاعة هذه المؤسسة خصوصا بالنظر إلى المساطر القانونية التي تقتضيها المتابعة فيما يتعلق بجريمة الرشوة واستغلال النفوذ واختلاس والأموال العمومية، كما يقول أديب السلاوي.
الباب الثاني:
بعنوان “الرشوة سلاح المفسدين في الأرض” يتناول علاقة الرشوة بالفساد في أوجهه المختلفة، الأخلاقي، والاجتماعي والسياسي العام، انطلاقا من قولة “إن الفساد ملة واحدة”، ذلك أنه يلعب نفس الدور في كل المجالات التي يطالها أخطبوطه ويعمل نفس العمل الهدام، فهو نقيض الصلاح والإصلاح، وعلامة من علامات التقهقر والسقوط والهشاشة والضعف.
ويتطرق هذا الباب إلى الرشوة من خلال مناقشة مفهوم الفساد في الأرض، الذي يقول أديب السلاوي إنه ليس وليد هذه الحقبة من التاريخ الإنساني، بل بعمر الأرض قديم بقدمها، وبسببه انهارت حضارات وعقائد ومذاهب وأنماط فكرية كثيرة ومختلفة، غير أنه يلاحظ أن الفساد، في القرن المنصرم بالذات (القرن 20) صار يشكل ظاهرة واسعة ومتعمقة في المجتمعات والأمم والشعوب والدول والأنظمة السياسية وغيرها، لقد تحول هذا الفساد في الأرض من حالة مرضية إلى صناعة مهولة، تحمل أنواعا عديدة من المفاهيم بحسب اختلاف الفضاءات التي تعمل فيها وتنشط، بل أن هذه الصناعة صارت في مناطق كثيرة من الأرض، آلة شيطانية رهيبة تحول موارد الفقراء إلى جيوب وخزانات الأغنياء بأساليب وطرق بالغة التعدد والتنوع والاختلاف، ولم يترك هذا الفساد، في صورة الرشوة، مجالا إلا طاله ولا حقلا إلا أحرق فيه الأخضر واليابس، في السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والرياضة، والفن… واستشرى على أصعدة محلية، ووطنية، وأخرى جهوية وقارية ودولية، وشكل إطارا فضائحيا لا يضاهى.
ويتطرق محمد أديب السلاوي في فصل آخر من هذا الباب إلى “الرشوة في العالم الثالث”، فيلاحظ أن هذا العالم بالذات جعل نفسه وفضاءاته كلها مسرحا لتنامي هذه الآفة، فكأنه عالما أول في هذا المضمار اللاأخلاقي مقابل ثالثيته في مضامير الاقتصاد والاجتماع والثقافة والحداثة! بل إن الفساد هو الخلفية الحقيقية الكامنة وراء معظم، حتى لا نقول كل، مشاكل العالم الثالث.
ويقدم محمد أديب السلاوي نماذج من الرشوة والارتشاء في العالم الثالث من خلال استعراض مظاهرها في نيجيريا التي انخفض الدخل الفردي فيها من ألف دولار سنة 1980 إلى أقل من 250 دولار في السبعينات، وصارت تحت هيمنة “الماركو كرائية” مما جعلها بالتالي مخترقة (بالفتح) من لدن شبكات التهريب وسمح للعرابين بالوصول إلى قلب المؤسسة الحاكمة والتأثير من هذا الموقع في سياستها الداخلية والخارجية على السواء.
ويضيف المؤلف حقائق ومعاينات من النموذج الروسي، الذي انقلب فيه الدب القطبي والغول الشيوعي المرعب إلى فأر ممزق الأوصال رافل في حلل الفساد بشتى الأشكال مما جعله لقمة يسيرة في فم الليبرالية المتوحشة، وطريدة سهلة في كماشة النظام العالمي الجديد الذي يوشك أن يحول روسيا، فعلا إلى بلد ثالثي بكل المقاييس لولا مقياس التفوق والتطاول العسكريين الذي لا يزال يضع هذا البلد في صنف الكبار، ويزيد أديب السلاوي نماذج ثلاثة أخرى، عن كل من المكسيك، والصين، وأندونسيا، حيث بدأ على الخصوص، أن الصين التي كانت إلى وقت قريب درة مصونة وجوهرة بعيدة عن عوادي الآفات، لم تلبث أن أفتضح أمرها وانكشف مستورها بفضل فضيحة عمدة بيكين التي انفجرت سنة 1997، وظهر على إثر ذلك، وبعد أن سقط جدار الصمت هناك، أن عدد ملفات الفساد والارتشاء المعروضة على العدالة في سنة 1976 وحدها ناهز 61 ألف قضية.
وعن الفساد والاستبداد، وضمن الباب الثاني نفسه، يلقي محمد أديب السلاوي الضوء على العلاقة بين الرشوة والاستبداد السياسي في دول العالم الثالث التي انفجرت هذه الظاهرة فيها أكثر من أي مكان آخر ومن أي وقت مضى، ويلاحظ، كما يرى معظم المحللين، أن الرشوة والفساد أمرا واحدا ناتجا عن الاستبداد في الحكم مهما كان صاحب الحكم ذا نوايا حسنة، فسوهارتو مثلا لم يكن سيئا بالمفهوم المطلق للكلمة، ولكنه كان على رأس نظام في غاية الاستبداد مما أذى إلى تنامي الفساد تحت لوائه وفي ظله، والأمثلة والنماذج من هذا النوع نفسه كثيرة في العالم الثالث، فالحكم الذي يرى الأمور من منظوره وحده ولا يرضى عن هذه الرؤية بديلا هو نفس الحكم الذي تقع الويلات باسمه وتحت نفوذه على أيدي المفسدين من مناصرية ومدعميه داخل الدولة وخارجها، وهذا بالذات ما جعل حكاما كثيرين يصابون بصدمات قوية لدى قيام ثورات أو انقلابات ضدهم، فكانوا لا يفتأون يرددون مقولات متحسرة ومندهشة تفيد بأنهم لم يكونوا مطلقا يتصورون أن يقع هذا ضدهم، وبأنهم متيقنون من حب الجماهير لهم… إلى آخر صيغ التباكي بعد فوات الأوان!
إن المشكلة في هذه البلدان مشكلة الشطط في استعمال السلطة، وتحييد القانون أو تخطيه، ومشكلة لجم حرية الرأي والتعبير، وتقليص هامش المواطنة، وجعل هذه الأخيرة حكرا على الحكام وحوارييهم وأركان أنظمتهم من رجال العسكر ورجال السلطة المدنية ورجالات الاقتصاد وأشباه المثقفين وغير هؤلاء من المهللين والمصفقين والمكبرين، وهذا الجو المشحون بالذات، هو الذي يشكل التربة الخصبة للاستبداد والقمع والتعسف، والشطط والإغناء غير المشروع، ولانتشار كل الأشكال الأخرى للفساد وفي مقدمتها الرشوة والزبونية والميز والمحسوبية… مما يولد الحقد والضغينة ويعمقها على صعيدين في آن واحد: صعيد العلاقة بين المواطنين والمسؤوليين، وصعيد الصلة المتداعية والهشة بين مكونات الشعب وفئاته ذاتها، بعد أن يتحول كل مواطن لديه خصاصة إلى قاطع طريق متربص بجاره يريد أن يستأثر بما لديه كلما قصرت يده عن استرجاع حقوقه من تأهيلها الحقيقيين، هذا هو المشكل في عمقه لدى بلدان العالم الثالث إلا من رحم ربك.
ويقرأ أديب السلاوي من هذا المنطلق في أسباب انتشار الرشوة قراءة أخرى مختلفة استقاها من الباحث المغربي إبراهيم منصوري، (من كلية الحقوق بمراكش)، تبدو الرشوة من خلالها نتاج استئثار الدولة في البلدان الثالثية بتوزيع سلع وخدمات نادرة لفائدة الشركات والمقاولات والأفراد، باعتماد معايير قانونية سرعان ما تتخطاها ازدواجية الأسعار دافعة الشركات، والمقاولات والأشخاص المستفيدين إلى دفع مقابل غير مشروع للحصول على الخدمات والسلع المذكورة بأسعار مدعومة من طرف الدولة، ويزيد في استفحال هذا الإجراء غير القانوني (الدفع خارج القانون) ظهور معدلات صرف متعددة ونسب فائدة تفضيلية يتنافس عليها المستفدون فيقدمون الرشاوي مقابل الاستئثار بها دون الغير، وكذلك الشأن بالنسبة للقروض التي تقدمها المؤسسات، والأنظمة البنكية بفوائد غير موحدة، ويضاف تدني الأجور إلى قائمة هذه الأسباب، بحيث تصبح الرشوة لدى الموظف العمومي إجراء تحفيزيا على السرعة والأداء المتقن يعوض النقص والعجز الحاصل في المرتبات التي تصرفها الإدارة.
وعن الرشوة والمبادرة، يتطرق أديب السلاوي إلى المحاولات التي قامت من لدن الإدارة وعموم المواطنين من أجل محاربة ديدان الرشوة، حيث ظهرت جمعيات وأجهزة متخصصة في هذا المجال النضالي في بلدان كثيرة، وتكوين أجهزة أمنية في بلدان غربية متقدمة، دون أن تفقد الرشوة في ظل هذه المبادرات قوتها وفاعليتها السلبية أو أن تتحول إلى أفعال أكثر صمتا واحتجابا ومراوغة وخداعا، وهذا ما جعل الاهتمام يتزايد علميا حول هذه الظاهرة مما أدي إلى قيام محاولات ذات صبغة دولية، خصوصا في نطاق أنظمة العولمة الآخذة في التناسل، بصيغة الضغط على الأنظمة الحاكمة في بلدان كثيرة، وفي طليعتها بلدان العالم الثالث، كي تقيم إصلاحات جذرية في بعض القطاعات، هيكلية، منهجية وبشرية بحتة، تؤدي في أفضل الأحوال إلى إضعاف تأثير الرشوة والحد من آثارها على الجهود الإنمائية. وفي هذا النطاق أيضا، أعلن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي حربا صريحة ضد الرشوة، وكان انطلاقها رسميا سنة 1996، باعتبارها مرضا سرطانيا فتاكا يحول الأموال والثروات في اتجاه واحد نحو الأغنياء، ويرفع كلفة كل النشاطات، ويؤدي إلى اختلالات خطيرة في استغلال الموارد الجماعية ويدفع الأموال الأجنبية والاستثمارات عموما إلى الاكماش أو الهروب.
أجرى صندوق النقد الدولي دراسة انتهت إلى وضع شبكة يقاس بها تأثير الرشوة على الاستثمار وعلى النمو وكذا الاختيارات التي تأخذ بها الحكومات في مجال الانفاق، فتبين أن من بين التأثيرات الخطيرة للرشوة إعاقتها النمو وتقليص سرعته بسبب خفضها لحجم الاستثمار، كما أنها تدفع إلى البحث في الربح بكل الوسائل بدلا من الإنتاج الجيد، وتدفع بالنفقات العامة إلى وجهات غير مفيدة وغير منتجة، وإلى ضياع موارد الدولة من جراء التهرب الضريبي والإعفاءات غير المبررة، ثم إلى مشاكل نقدية تتسبب فيها السلفات غير المشروعة التي يقدمها النظام المالي العمومي بشروط غير ملائمة لمتطلبات السوق المالية، وأخيرا، تؤدي إلى سوء قيام البنيات الأساسية والخدمات العامة، وإلى تحول الصفقات العمومية عن وجهاتها المرسومة ما دامت تقوم وتبرم بناء على الرشوة وحسابات المصلحة الخاصة.
وتجمع الدراسات المنجزة في هذا المضمار عموما، كما تنص هذه الدراسة على الخصوص، على أن تقلص هامش الرشوة يفتح المجال بتحصيل الحاصل لزيادة حجم الاستثمار، وارتفاع معدل نمو الناتج الداخلي الخام، وأن كل اتساع للرشوة إنما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على اختيارات الميزانية العامة وخصوصا على المشاريع التي تحقق النفع العام.
وقد رأى البنك العالمي وصندوق النقد الدولي أن تقاعس الحكومات عن محاربة الرشوة والحد منها علميا، من شأنه أن يوقف أو يقلص المساعدات وكذا القروض التي تمنحها البلدان المعنية باعتبار الرشوة خدمة لمصالح الأقلية على حساب الأغلبية، وهذا ما يرفضه المجتمع الدولي كلية من خلال مؤسساته المختلفة.
وعن الرشوة من منظور النظام العالمي الجديد، يؤكد المؤلف، أن المؤسسات البنكية الدولية تعتبرها مرض القرن العشرين، وتراها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (DECD) جريمة ينبغي أن تعاقب عليها كل القوانين.
ويقدر البنك الدولي حجم الرشوة بحوالي 80 مليار من الدولارات برغم عدم وجود إحصائيات دقيقة بشأنها، وهذا ما دفع المنظمة المذكورة إلى إقرار اتفاقية تصادق عليها برلمانات العالم تلزم الدول والمجتمعات المدنية بالتصدي لهذا الورم الخبيث، وقد انتهت صياغة هذه الاتفاقية سنة 1999، وتضمنت بنودها منع كل أشكال الرشوة خصوصا في مجال التعاقد والتجارة الدوليين وتقضي بمصادرة أشكال الشركات والمقاولات المتورطة.
وبعد أن يستعرض محمد أديب السلاوي جملة من قرارات الهيئات الدولية وتوصياتها في هذا المجال، يختم الباب الثاني بالتطرق إلى التصنيف العالمي للرشوة، والذي أنجزته “الشفافية الدولية” حيث كانت الطليعة في قائمة الدول الأكثر إصابة بهذه الآفة من نصيب نيجيريا وبوليفيا وكولومبيا وروسيا وأندونسيا، وهذه هي نفس الدول التي جعلت أهم مشاريع التنمية والدفاع من معدات عسكرية وطائرات وسفن وآليات اتصال، ومن سدود وطرق وموانئ وقناطر… أكثر المجالات ارتباطا بالرشوة سواء في العالم النامي أو في نظيره المصنع.
الباب الثالث:
تحت عنوان “الرشوة في المغرب، والتجدد في الطموحات المريضة” يتساءل أديب السلاوي عن موقع الرشوة في مغرب اليوم وأحوالها، وعن مدى اختلافها، أو عدمه عن الفساد في العام كافة؟ إن المغرب كما يؤكد أديب السلاوي من البلدان التي تعاني من الفساد والمفسدين على عدة مستويات وفي عدة ميادين، إداريا، واقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا..
والرشوة في المغرب تطال كل القطاعات ويتنوع الفساد فيه فيشمل التهريب، والمخدرات، والمحسوبية والزبونية واستغلال السلطة والنفوذ، والتلاعب بالمال العام وسرقته والتملص الضريبي، وخرق القوانين والأنظمة المختلفة، كل ذلك، فضلا عن الارتشاء بمختلف أشكاله وألبسته، وهكذا أصبح للفساد في المغرب نفوذه القوي، ومس هذا النفوذ ذاتية الشخصية المغربية في عمقها وصار يتجدر قي اهتمامات البلد وطموحاته.
وإن الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد لغنية عن التوضيح وعن كل إطناب، وما هي إلا صورة لذلك الفساد متعدد الوجوه، ويضيف أديب السلاوي إن نصف سكان المغرب يعيش في ظلم شديد بالبوادي حيث لا طرق ولا مستشفيات ولا تعليم ولا شغل.. كل ذلك، في زمن ثورة الاتصال والمعرفة وثورة الحضارة التكنولوجية.
هكذا، يقدم أديب السلاوي ضمن هذا الباب الثالث صورا، مركزة أو تكاد عن أحوال فساد الرشوة في المغرب، اعتمادا على شهادات الرأي العام من خلال ما تنشره الصحافة الوطنية، ومن خلال ما يصدر عن المفكرين والفعاليات الأخرى الأكاديمية والمهتمة حول واقع هذه الظاهرة.
وهكذا يتطرق المؤلف إلى أشكال الرشوة في المغرب، فيذكر الرشوة الفاضحة، والرشوة المستترة التي تمارس داخل القطاعات الاقتصادية وفي صميم الصفقات العمومية والخصوصية، مما يشكل خيانة الأمانة وانعداما للذمة لدي مختلف الأطراف ويؤدي إلى نخر البنية الاقتصادية وتلويث اللحمة الاجتماعية ونشر ثقافة التحايل والخديعة على حساب النزاهة والشفافية وتكافؤ والفرص.
وفي نظر محمد أديب السلاوي أن ما يساعد على انتشار الرشوة في المغرب، إدارة بيروقراطية متخلفة، تعقد المسطرات وتتباعد عن المواطنين كلما زادت في ترديد شعار الاقتراب منه والاستماتة في خدمته، إذ الواقع يكذب تكذيبا قاطعا كل العناوين والشعارات.
وتتخذ الرشوة في الإدارة شكلية اثنين: الرشوة من أجل العيش، وهذه ما هي إلا ردود فعل من لدن الموظفين العموميين مهضومي الحقوق وضئيلي الأجور والرواتب والتعويضات، وغالبا ما يكون هؤلاء من مستويات دراسية وتأهيلية ضعيفة لا تسمح لهم بالترشيح لمناصب ومراتب مالية مريحة، ولذلك يرتشون لغرض انقاذ ما يمكن انقاذه من أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والأسرية أو لتحسين هذه الأحوال إلى أدنى الحدود.
ويظهر للدارسين أن هذا النوع من الرشوة كذلك الذي يقدم أو يطلب مقابل ورقة إدارية عادية أو خدمة يومية يسيرة… لا يلحق ضررا مذكورا بالمجتمع وبالبنية الاقتصادية لأنه لا يفعل سوى أنه يسرع في إنجاز الخدمات المذكورة دون أن يحولها إلى امتيازات أو حقوق غير مشروعة.
وهناك نوع آخر، ويتمثل في رشوة من صنع الجيل الثاني (بعد جيل الاستقلال) وهو الجيل الذي انهارت آماله في العيش الكريم أو سقطت دونه جسور الالتحاق بركب المستفيدين ممن سبقوه، فتنازل عن ذمته وباع مبادئه وتخلى عن قيمه بسبب الواقع اليومي الذي يهدده، إذ هو جيل لا يتقاضى أجرا يلائم مهامه المعقدة والمنهكة فضلا عن فقدانه الثقة في رؤسائه بعد أن فقد هؤلاء الثقة فيه وهم الذين لا يتوفرون على مثل كفاءاته العلمية والمعرفية والمهنية.
وبجانب هذين النوعين من الرشوة، يتربع الفساد الإداري على عروش الفساد العام، حيث يندفع الموظفون إلى الارتشاء وإلى كل أشكال التلاعب والغش مدفوعين، وليس مخيرين، بأيد يستفيد أصحابها من هذا الوضع المرتبك وينتفعوا من إسقاطاته، حيث أنه صار من البديهي أن يوجد وراء كل موظف فاسد رئيس مستفيد إما مباشرة عن طريق تحريك هذا الموظف وتشغيله فيما هو فيه من الإخلال بالمسؤولية والنزاهة، وإما بطريق غير مباشر من خلال التغاضي والصمت ضالعا هو ذاته في الفساد بشكل أو بآخر، إذ لا يصمت على الفساد البين إلا من في بطنه كومة من العجين الفاسد.
إن الإدارة، كما يؤكد أديب السلاوي وفي هذا السياق، أقوى من السياسة، ومن كل الحسابات، لأن لها القانون الذي تستند عليه، ولأن لها أصولا ونظما لا تلين ولا تميل لأي نوع من الحسابات، فبالأحرى إذا كانت هذه الحسابات سياسية أو إيديولوجية، ولكن الإدارة تنحني وتميل وتنكسر أمام عواصف الفساد سواء جاءتها هذه العواصف من جهة معينة، أو انفجرت بداخلها على أيدي العناصر البشرية العامة في رحابها، لذلك لا يجوز ربط الفساد القائم بالمبادئ السياسية المختلفة ولا بأي جهة سياسية كانت خارج الإدارة، لأن الإدارة وحدها هي التي بيدها أن تمارس شؤون الوطن والمواطنين بالنزاهة والشفافية المطلوبتين، كما بيدها أن تماطل وتغش وتزور في كل شيء بما في ذلك إرادة المواطنين واختياراتهم (الانتخابات).
إن الإدارة هي صمام الأمان بالنسبة لمصداقية الدولة لأنها الباقية مقارنة مع كل الأجهزة الأخرى والمكونات، من حكومة وبرلمان وأحزاب ونقابات… ولذلك فالإدارة هي المعنى الأول والأخير بتحقيق مطلب الاستقامة: الاستقامة في أداء الخدمات التي تقتضي النظام السائد أن تؤديها الدولة، والاستقامة في توظيف الموارد البشرية الكفأة والقديرة، وفي تدبير المال العام، وفي الاحتفاظ لكل الخطط والمشاريع، بمضامينها والمبادئ التي قامت عليها، كلما انتقلت هذه الخطط والمشاريع إلى يد الإدارة من أجل التطبيق والتنفيذ والمتابعة.
إن الخراب الاقتصادي الذي يسببه الفساد الإداري داخل الدولة المغربية لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يفصح عن مظاهره وخباياه على السواء، فالمستثمرين الهاربين، وأموال الاستثمار الوطني والأجنبي المتقلصة، والمشاريع الإنمائية المعطلة أو المنحرفة أو الخاسرة، والبنيات الأساسية المهترئة منذ تدشينها، والأمن المنعدم في قطاعات وربوع غير قليلة، بما في ذلك الأمني المدني، والغذائي والسياسي، والتربوي، والأخلاقي… والعلاقات الطبيعية التي يفترض أن تقوم بين مواطنين يؤدون واجباتهم ويسددون ضرائبهم وإدارة تستخلض لوازمها المالية من المعيش اليومي لهؤلاء وتلتزم بردها إليهم في صورة خدمات غير متبوعة بأجر ولا بمنة، ومع ذلك تعقد المساطر أمامهم وتعرقل فضاء مآربهم العادية، وتفرض لهم دهاليزها وأورقتها بأفواه تلتهم ما تبقى في جيوبهم ومحفظاتهم إلى آخر سنتيم… كل هذه الصور والمظاهر تغني عن كل تعليق وعن كل توضيح حول الفساد المعشش في دواليب الإدارة المغربية إلى النخاع!
وعن الرشوة في المنظور الإعلامي، يفيد أديب السلاوي بأن الدراسات التي أنجزت على صعيد وسائل الإعلام خلصت إلى أن المغرب يحتضن أكثر من ثمانين ضربا من ضروب الرشوة صغيرة وكبيرة، ظاهرها وباطنها، من الرشوة المقدمة مقابل نسخة من عقد الازدياد أو شهادة السكنى، أو مقابل الحصول على رقم بسيط لترتيب مقابلة طبيب بإحدى المستشفيات العمومية، إلى الرشوة المضمرة والكامنة خلف أكبر وأضخم الصفقات وأكبر الرساميل والمعاملات الاقتصادية والمالية.
ومن الطبيعي والحالة هذه أن تهتم وسائل الإعلام المكتوبة على الخصوص، بموضوع الرشوة خصوصا والفساد الإداري عموما، وتفرد له استطلاعات ودراسات وإحصائيات تنم كلها عن بلوغ هذه الآفة بمقارنة يسيرة وغير متعبة ولا مكلفة، على أن ما يعرض على المحاكم المغربية عموما، وعلى المحكمة الخاصة على الخصوص، لا يساوي شيئا ولا يستحق بالتالي أي مقارنة مع حجم ما تعج به الساحة الوطنية عموما والساحة الإدارية والمعاملات المتعلقة بها خصوصا من ظواهر وبواطن الفساد والارتشاء بأشكالهما وأنواعهما وعواقبهما العزيزة عن العد والحصر.
ويتطرق أديب السلاوي إلى عينات محددة من الرشوة والفساد على الصعيدين الفاخر والرغيد، والصغير الضئيل، وإلى الرشوة في المجال الاجتماعي، والتي مست فيه هذه الآفة حتى نطاقات الرعاية الاجتماعية ومحاربة الفقر والعناية بالطفولة والأشخاص المعاقين وتوزيع هبات ومنح المحسنين وفاعلي الخير وتدبير شؤون الصدقات والأوقاف العمومية والخصوصية… والرشوة في المجال السياسي، والتي طالت الانتخابات والاستحقاقات السياسية المختلفة حيث دخلت إلى قبة البرلمان وإلى باقي المجالات المنتخبة التي يفترض أنها العيون المفتوحة باسم الشعب على مصالح الأمة وعلى حراسها الإداريين، حيث تلطخت الأيدي وقلبت المعاطف وفاحت روائح التلاعب والفساد فيما درج عليه بعض نواب الأمة من استغلال للنفوذ البرلماني، وللحصانة البرلمانية، وفيما ارتكبه بعض آخر من تغيير للمواقف السياسية المبدئية وتغيير بالتالي للون السياسي وللفريق مما لا توجد له أي مرجعية في الأخلاقيات السياسية وفي المجتمعات والأحزاب والأشخاص المحترمة لذواتها ولقيمها ولالتزاماتها إزاء المصلحة العامة.
الباب الرابع:
وبعد التطرق إلى بعض جوانب تغلغل الرشوة في مجال السلطة الثالثة، أي القضاء، يفتح أديب السلاوي بابا رابعا، على واقع الرشوة بين آمال المواطنين وتطلعات المجتمع المدني من جهة، ونوايا الحكومة وبرامجها ومشاريعها القائمة من جهة ثانية فاتحا المجال أيضا لطرح جملة من الأسئلة المشروعة حول الحركة الواعية التي ينبغي أن تند عن الحكومة والمجتمع المدني يدا في يد من أجل معالجة ظاهرة الفساد والارتشاء والتلاعب بالذمم وبالمال العام أيضا، والاستخفاف بالمصلحة العامة… بما يقتضيه المواقف من حزم، ولكن أيضا، من علم ودراية وموضوعية من خلال منهاج واضح يخلق الحياة العامة ويشرك من خطوات وتدابير مدروسة ودقيقة لا تزال إلى الآن قيد المناقشة والدراسة والصياغة.
وفي ختام هذا العمل المشكور، يطرح محمد أديب السلاوي أسئلة يقول إنها متبقية تتعلق على الخصوص بواجب إلغاء كل ميز أو امتياز أو فارق في معالجة الفساد والضرب على أيدي المفسدين، وبتطبيق القانون في معالجة الفساد والضرب على أيدي المفسدين، وبتطبيق قانون من أين لك هذا، وجعل علميات “الأدويت” السابقة والقائمة والقادمة شفافة وجعل غسيلها الوسخ ماثلا أمام أعيننا حتى نعلمه، ونعيه ونعلم أسباب قيامه وعلاجه والخطوات المتبعة في طريق هذا العلاج، وحتى يكون كل مفسد عبرة لغيره ودرسا، ويكون صيحة توقظ كل الضمائر.
ويبقى القول، إن الكاتب الصحافي ذ. محمد أديب السلاوي كاد أن يلم في هذا الكتاب اليسير حجما، المركز حمولة، بجميع جوانب الموضوع لولا أنه، عن غير قصد بدون شك، نسي وجهة نظر الشريعة الإسلامية في التعريف والتحليل والتشخيص والمعالجة، واكتفى من ذلك فحسب، بحديث شريف، وثلاث مقولات بليغة لكل من عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما والعلامة عبد العزيز بن الصديق رحمه الله، جعلها كاستهلالات يسيرة ومقتضبة في بداية كل باب من الأبواب الأربعة، ولا شك أن الأستاذ أديب السلاوي لم يقصد ذلك فعلا بدليل ورود الشريعة في السؤال الرئيسي والأول من الباب الأول، وإن كان السهو قد وقع في تخصيص فصل خاص لهذا الغرض، فسبحان الذي لا تأخذه سنة ولا سهو ولا نوم.