:عن القدس العربي
يرى الكاتب المغربي محمد أديب السلاوي أن صورة الاحتقان السياسي الذي يعيشه المغرب منذ سنوات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السلطة ما زالت غارقة في مفاهيمها ’المخزنية’ العتيقة، موضحا أن كلمة ’المخزن’ تعني المفهوم التقليدي للجهاز الإداري المتسلط. واستشهد على ذلك بما تعرفه العديد من مناطق البلاد من مشاهد متكررة للعنف ضد العاطلين والمقهورين بغلاء المعيشة وضد أصحاب الحقوق والفقراء والمهمشين، بالإضافة إلى تنامي صور الابتزاز والرشوة والاختطافات والاعتقالات التعسفية ومحاصرة الصحافة الحرة. ففي كتاب ’السلطة المخزنية: تراكمات الأسئلة’ الصادر حديثا عن ’دار الوطن’ في الرباط، أشار المؤلف محمد أديب السلاوي إلى أن الثقافة ’المخزنية’ المثقلة بالصراعات والتجاذبات والمصابة بالترهل والانسداد الفكري عمّقت إلى حد بعيد معارضتها للتحديث وللانتقال الديمقراطي، ورسخت في المجتمع من جديد الإحساس بالخوف والإحباط والتذمر والاحتقان، بعدما جعلت من رجل الأمن والسلطة حاكما نيابة عن الحاكم، وهو ما سيؤجل حتما لسنوات أو لعقود ـ في نظر الكاتب ـ عملية التغيير المطلوبة. وقال كذلك إن الأمر لا يتعلق فقط بتغيير عقلية صنعتها الثقافة المخزنية على مدى أجيال متلاحقة لإدارة الشأن العام بمقاييس ومواصفات وتوجهات أصبحت بعيدة عن هذا العصر وقيمه، ولكنها أيضا تتعلق بتفكيك الجهاز الأخطبوطي الذي رعته تلك الثقافة وغذته باستمرار لعقود بعيدة، وتأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وذكّر الكاتب بإقالة وزير الداخلية المغربي الأسبق الراحل إدريس البصري من وزارة الداخلية في 1999 وإعلان العاهل محمد السادس عن ضرورة إعطاء مفهوم جديد للسلطة وفق ما تقتضيه دولة الحق والقانون، معتبرا أن هذين القرارين بددا في حينهما توترات طويلة مثقلة بالتجاذبات والتوترات، وأعطى إشارة قوية إلى الأمل ليحتل موقعه في نفوس المغاربة وقلوبهم. لكن أديب السلاوي استطرد بالتأكيد على أن المفهوم الجديد للسلطة بقي مجرد شعار، إذ تضاعف نفوذ وسلطة وزارة الداخلية (أم الوزارات)، وتراجعت وضعية الحريات العامة وتدهورت الانتخابات ووضعيات المجالس المنتخبة والأحزاب والمجتمع المدني. ورأى مؤلف الكتاب أن ’تجديد مفهوم السلطة’ مرهون بتوسيع آفاق الديمقراطية وتنظيف الإدارات العمومية من نفوذ الفساد والمفسدين، وبعبارة أخرى الانتقال من ’العقلية المخزنية’ التي استباحت في الماضي كرامة المواطن وحقوقه إلى ’العقلية الديمقراطية’ التي تحمي للمواطن كرامته في دولة المؤسسات والحق والقانون. وأوضح أن الأمر لا يتعلق فقط بتجديد آليات السلطة، بقدر ما يتعلق بالتحديث الضروري لـ ’دولة المخزن’ وانتقالها الفعلي إلى دولة عصرية في هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضبط سلطاتها وفق مفاهيم الدولة الديمقراطية الحديثة. وقدم السلاوي نظرة تاريخية حول الممارسات ’المخزنية’ في المغرب، وخاصة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأفاد بهذا الصدد أن دولة المخزن اعتمدت في استمرارها ونفوذها وحماية مصالحها على نماذج من السلطة إما أن يكونوا نابعين من فئات معروفة بخدمتها وتفانيها في الدولة، أو تنتمي لفئة ’العبيد’، وهم ’البخاريون’ الذين تمرسوا عبر التاريخ على خدمة قادة هذه الدولة وأمرائها وسلاطينها داخل القصور وخارجها. وتابع موضحا أن الشرط الذي كانت وما زالت تشترطه دولة المخزن في رجال سلطتها هو الإخلاص المطلق للسلطان والدفاع عن مصالحه وحب السيطرة والميل إلى العنف في استعمال سلطة الهاجس الأمني. وفي نظر المؤلف، فإنه لا يمكن فهم حالة السلطة في القرن العشرين دون الإطلالة على حالتها في القرن الذي قبله، حيث اتسعت الهوة بين المغرب والعالم الإسلامي من جهة، وبينه وبين جارته أوروبا من جهة ثانية، بعدما تحقق لهذه الأخيرة عدة ثورات مادية وفكرية (الثورة الصناعية، النهضة الفكرية، الإصلاحات الدينية، الإصلاحات الاقتصادية) في الوقت الذي بقي فيه المغرب يعيش على اقتصاد عتيق ومؤسسات تقليدية متهالكة وسلطات عرجاء مقهورة وحضارة متأرجحة، ويعاني من الأفول ومن التهديدات المتتابعة للتدخل الاستعماري الذي كان يرى في المغرب مصدرا للخيرات والثروات الطبيعية التي تشكل عصب دوران آلته الصناعية. وأضاف الكاتب أن انشغال السلطة المغربية خلال تلك الفترة بمنازعاتها مع القبائل والجهات والتمردات المتولدة عن حالة التخلف الشامل قد أتاح الفرصة كاملة للآلة العسكرية الأوروبية وخاصة الفرنسية والإسبانية لزعزعة ما تبقى للمغرب من مؤسسات ولإحداث الاختلال في التفكير السياسي. وتوقف المؤلف عند أبرز ’نجوم’ السلطة المغربية في القرن العشرين: أحمد بن موسى (1841م ـ 1904)، التهامي الكلاوي (1878 ـ 1956)، الجنرال محمد أوفقير (1924 ـ 1972)، إدريس البصري (1938 ـ 2005)، ملاحظا أن هذه الأسماء كانت متشابهة في ملامحها الأخلاقية والثقافية والنفسية وذات قواسم مشتركة، جميعها تنتمي إلى فئات واطئة أو إلى ثقافة هشة، وقد عملت على تحويل السلطات الإدارية إلى سلطات قسرية وزجرية، تلزم الجميع على التكيف بالعنف، وهو ما أعطى سلطة المخزن في نهاية المطاف صورة محزنة.