الكاتب والصحفي محمد أديب السلاوي، في حوار مع جريدة الرأي L’Opinion
وزير الثقافة يعلم أكثر من غيره أن الكتاب والفنانين والمبدعين لا يعيشون من إنتاجهم، بسبب السياسات الثقافية الراهنة… وتلك هي المعضلة.
أنتج المغرب وفرة من الصناعات والحرف والفنون البصرية الإنسانية تفاعلت مع الحضارات وأكدت حضورها الدائم على الخريطة الإنسانية.
البحث عن الذات، عملية مستمرة في الآداب والفنون والثقافة أو هكذا: يجب أن تكون.
أسواق الفنون التشكيلية، كأسواق السياسة، مرتبطة حتى النخاع بالسماسرة والمضاربين.
بمناسبة إصداره كتاب: التشكيل المغربي، البحث عن الذات (عن دار مرسم بالرباط) أجرى الصحفي خليل الرايس(مسؤول القسم الثقافي) بجريدة الرأي l’opinion حوار شاملا مع الكاتب والصحفي والناقد الفني محمد أديب السلاوي، (نشر يوم الجمعة 18 شتنبر 2009) تحدث فيه عن وضعية الحركة التشكيلية المغربية الراهنة وعن روابطها الثقافية وعلاقاتها بالأصالة والمعاصرة، وعن دورها الثقافي والجمالي في بلورة القيم الحضارية لمغرب الألفية الثالثة فيما يلي نص هذا الحوار.
س: بداية ما الذي دفعكم إلى نشر مؤلف جديد (هو الرابع) عن الفنون التشكيلية المغربية؟
ج: اثنان من مؤلفاتي الثلاث السابقة عن الفنون التشكيلية المغربية، يبحثان في العلاقة المفترضة بين التراث التشكيلي المغربي القديم، واللوحة المعاصرة ويبحث الكتاب الثالث، في العلاقة الجدلية بين الحرف العربي واللوحة المغربية الحديثة، حيث سلطت محاور هذا الكتاب الضوء على أعمال نخبة من التشكيليين المغاربة، تجاذبوا مع الحرف العربي، واستنبطوا منه إبداعا حروفيا، أكد على هويتهم العربية.
أما ما يتعلق بالكتاب الجديد “التشكيل المغربي، البحث عن الذات” فاتجه إلى منحى جديد، وهو الإجابة عن التساؤلات المطروحة على ساحته، حول ماهية اللوحة المغربية: هل للفن التشكيلي المغربي خاصية معينة؟ هل تتجلى هذه الخاصية فيما استورده من ألوان وتجارب وقيم… وما هي انعكاسات هذه القيم على الثقافة والفكر والوجدان الجمالي، لمغرب اليوم…
باختصار شديد، الكتاب المشار إليه، هو بحث متواصل عن لغة تشكيلية مغربية، من خلال علاقة اللغة البصرية الحديثة، بمرجعياتها الحضارية والتراثية، ومن خلال علاقتها بالإحساس الجمالي للمبدعين المغاربة على مختلف اتجاهاتهم وأجيالهم.
من جانب آخر، هو بحث في تراكمات الحركة التشكيلية المغربية وتنوعاتها النابعة بالخصوص عن التطورات الفكرية التي عرفتها هذه الحركة من داخل المتن الثقافي المغربي ومن خارجه، خلال العقود الأخيرة من الزمن المغربي.
س: تركزون دائما على الربط بين الفنون المعاصرة والتراث الجمالي العميق الجذور، كيف تقيمون التلاحم الرابط بيم هاذين الفنيين؟
ج: نعتقد أن التراث الحضاري المتواجد على هذه الرقعة من إفريقيا الأمازيغية/ العربية/ الإسلامية/ واليهودية، وهو تراث يمتد على مسافة تاريخية متواصلة، من العصر الحجري إلى العصر الإسلامي، يبلور موقعنا الإبداعي، على الخريطة الإنسانية…
إن الأشكال الهندسية والخطوط والرموز والرسوم، التي تشهد بوضوح على عصور مترابطة ومتداخلة، وعلى حياة تمرس بها الإنسان في هذه الأرض، في الأطلس والصحراء والشواطئ، تؤكد على إننا أمة قدست الفن باستمرار، واستلهمت منه إشعاعها الحضاري.
لقد أنتجت هذه المنطقة، وفرة من الصناعات والحرف والفنون البصرية القائمة على المباني والمعابد والمساجد والزوايا والقصور، تفاعلت وتصاهرت مع الحضارات الأخرى وأكدت حضوها الدائم على الخريطة الإنسانية.
فهل يمكن للوحة/ الشوفالييه، أن تنفصل عن هذا التراث؟ إن تبتعد عنه؟ في نظرنا، لابد لها أن تندمج في قيمه، وأن تتوحد معه، إذا أرادت لنفسها الانصهار والحياة والخلود…
لأجل ذلك، تجدني باستمرار مركزا على هذا المحور الثقافي الهام، لأنه وحده يستطيع ضمان الوجود لفن اللوحة (الحديث) في بلادنا.
س: بالتركيز على هذا الربط، هل يدفعنا ذلك – منطقيا – إلى إعادة كتابة تاريخ الفنون التشكيلية بالمغرب.
ج: في حقيقة الأمر، إن هناك مبادرات هامة، لكتابة هذا التاريخ من وجهات نظر مختلفة، هناك بعض الكتابات “الكولونيالية” عن الفنون التشكيلية العربية والبربرية في المغرب القديم والمعاصر. هناك أيضا متابعات أنتوغرافية لباحثين أجانب حول فنون الخزف والخشب والنسيج والحلي، تغطي بعض المساحات التاريخية والجغرافية للمغرب المعاصر… وهناك تأملات فلسفية لمغاربة وأجانب، في مظاهر الفنون في بعض فترات التاريخ بالمغرب، ولكن تاريخ يشمل كل الفنون التشكيلية في مغرب الماضي ومغرب الحاضر، مازال يحتاج إلى قرارات الدولة، إلى رؤية إيديولوجيةـ وإلى قناعة بجدوى التراث والثقافة في التنمية البشرية… وهو ما نصمت عنه حتى الآن، لأسباب الله وحده يعلمها.
لا أريد هنا أن أعطي درسا أو نصيحة حول جدوى التراث الجمالي/ الفني/ الحضاري لأمتنا العظيمة، في إيجابية مشروع التنمية البشرية، لأن الأمر لا يحتاج إلى من يعطي النصيحة أو الدروس.
س: سؤال عرضي، في مجال الرسم/ اللوحة: هل هناك من سبق الرائد محمد بن علي الرباطي إليهما…؟
ج: تجب الإشارة هنا، إلى أن فن الرسم كان موجودا وقائما باستمرار، من العهد الحجري، حيث مازالت هناك رسومات من هذا العهد على جبال ثلاثية الأطلس، إلى العهد الإسلامي، حيث تحتفظ المكتبة المغربية، بمئات المخطوطات في الطب والهندسة والفلسفة والصناعة التي تحتوي على رسومات ملونة في منتهى الدقة والإبداع والصنعة… وهي في حاجة إلى قراءات متعددة لإدماجها في التراث التشكيلي المغربي المعاصر…
نعم هناك العديد من الفنانين/ الرسامين، سبقوا محمد بن علي الرباطي، بعقود وقرون، ولكنهم في غالبيتهم في دمة التاريخ… مجهولون… وهذا يزيد من قيمة الرجل الذي وقع أول لوحة له باسمه، ليضع حدا للفنان المجهول.
س: وضعتم عنوانا صغيرا على بحتكم الجديد، حول الفنون التشكيلية المغربية “البحث عن الذات” هل وصلتم إلى ذلك، وإلا كيف تفسرون مثل هذا الانحسار؟
ج: البحث عن الذات، عملية مستمرة، أو هكذا يجب أن تكون، تهم مكونات الحركة التشكيلية عامة، ومبدعي هذه الحركة خاصة، أن الأمر يتعلق بوعي فني/ ثقافي/ حضاري، يدفع تجاه تجديد نظرتنا إلى القيم الثقافية والحضارية، وفق المتغيرات الشاملة في عالم اليوم.
قبل أن تصلنا اللوحة في شكلها الأروبي/ العولمي، كانت دينامية التغيير قد تناولت كل شيء في مضمار العمل الفني وتطوير مفاهيمه الفكرية التي كانت نواة لتجديد نظرة الإنسان إلى الكون، وهو ما جعل الفن شديد البحث عن أفاقه الجديدة، لمواجهة المواقف والقناعات من أجل الإندماج في حركيتها وفاعليتها الحضارية.
اعتقد أنه حان الوقت لهذه اللوحة المتموقعة في صدارة الاهتمام الثقافي، والتي تحطيها الفاعليات الثقافية، بما يشبه الاهتمام، حان الوقت أن تبحث عن أفاقها الجديدة، إنها اليوم داخل المنظومة الثقافية العالمية الإنسانية، التي تناضل من أجل غد أفضل/ إندماج أفضل في الخريطة الإنسانية. إنها اليوم تواجه كل الإيديولوجيات والنظربات والفلسفات، تتداخل مع كل المواقف والقرارات والتوجهات. لذا أصبح عليها أن تبحث عن ذاتها في هذه الآفاق، لا في آفاق السوق وحده.
س: قضية أخرى تتعلق بالكتابة عن الفنون التشكيلية بالمغرب، أنتم ضمن نخبة محدودة تبحث في هذا المضمار. كيف تفسرون ندرة الأدبيات التشكيلية.
ج: الأمر في نظري، لا يتعلق بالكتاب أو النقاد، أو الكتبة، ذلك لأن الفنون التشكيلية، تحظى بعشق النخب الثقافية أكثر من باقي الفنون الأخرى، ومن داخل هذه النخب، استقطبت أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين وفلاسفة وصحفيين للإحاطة بعطاءاتها والتنظير لإبداعاتها، وهو ما لم يتوفر لفنون أخرى، تشترك الساحة الثقافية معها.
يعني ذلك، أن بلورة هذه “الإحاطة” يشترط على الإعلام بكل فصائله وعلى مؤسسات النشر في مستوياتها المختلفة وعلى كافة القطاعات الثقافية، إن تدعم ماديا ومعنويا، “النخبة” التي عشقت/ تعشق الألوان وفلسفتها وانعكاساتها الثقافية، وخطابها البصري، والتي تعطي الحركة التشكيلية المغربية موقعها الحقيقي على الأرض.
للفنون التشكيلية خصوصيات في النشر، وأيضا في الكتابة والقراءة، وهو ما يعني أن الدعم يجب أن يكون مرتين، من أجل المزيد من التأطير الفكري والتوجيه الثقافي، لهذه الحركة، ومرة من أجل المزيد من إشعاعها وطنيا ودوليا.
س: أنتم تدعون وتدافعون على تعليم وتلقين الفنون التشكيلية وفق مناهج لا تتخلى عن الخصوصيات المغربية، وأن لا تقتصر مناهج التعليم/ التربية/ التكوين التشكيلي، على ما يرد علينا من الغرب، تدعون إذن إلى مغربة تعليم الفنون التشكيلية…؟
ج: هذه ليست دعوتي وحدي. إنها تكاد تكون دعوة كل المربين الذين ينظرون إلى مدرسة المستقبل، المدرسة التي تنخرط في العولمة، ولا تنفصل عن المغربة، إن الانتقال إلى الديمقراطية لا يعني التخلي عن الشريعة.
كيف يمكن للفن التشكيلي المغربي، أن يتجذر في الطموحات الوطنية، وفي التناقضات والتطورات التي تعيشها المجتمعات البشرية، وهو متقوقع في مناهج لا تنتمي لطينته، متخلى عن حقه في هويته… أي هوية هذه المناهج.
في مغرب الألفية الثالثة، يصعب حصر الأسماء التي أخذت معارفها التشكيلية عن المناهج الغربية، واحترفت التعبير عن نفسها وهواجسها وتطلعاتها، وفق منظور هذه المناهج… ولكن المجال، مازال مفتوحا لتأسيس مرحلة جديدة من الإبداع التشكيلي.
الأمر يحتاج إلى مناقشة وحوار متعدد الأطراف حول هذه الإشكالية… وحول إشكاليات عديدة أخرى، والحوار في الأزمنة المتأخرة، أصبح مطلبا معقدا، بفعل السياسات التربوية والثقافية القائمة، ولكن لابد له أن يكون.
س: ينخرط العديد من الفنانين المغاربة، في اتجاهات ومدارس فنية، نابعة من صميم المجتمع والحضارة والثقافة في أروبا وهي اتجاهات ثقافية/ إيديولوجية، استقطبت في أزمانها شعراء وكتاب وأدباء، إضافة إلى فنانين/ رسامين ونحاتين. وبعض هذه المدارس والاتجاهات طبعت فترات كاملة من التاريخ الأروبي الحديث والمعاصر… كيف يتم انخراط فنانينا في هذه الاتجاهات والمدارس، خارج شروطها الثقافية؟
ج: مثل هذا الانخراط عند غالبية الفنانين لا يعني إطلاقا الاندماج/ المشاركة الإيديولوجية أو المذهبية، التي تطبع هذه المدرسة أو ذاك الاتجاه في الغرب، إنه تقليد في الشكل، رفض في المضمون، مثلا: المحجوبي أحرضان سوريالي، ولكنه يرفضها من حيث المبدأ، عبد اللطيف الزين، تشخيصي/ انطباعي، ولكنه يفضل أن يكون تجريديا، ينشد روحانيات اللون… ومن هذه الأمثلة في الحركة التشكيلية الكثير الكثير.
هذه الإشكالية، لا تطرح نفسها على الفنانين وحدهم، إن العديد من النقاد يصمتون عنها، ربما لأننا لم نصل بعد إلى مرحلة ربط اللوحة بالتوجه الثقافي/ الفلسفي/ الإيديولوجي لمبدعها.
في الغرب، السورياليون والواقعيون والتجريديون، كانوا يناضلون إلى جانب المفكرين والسياسيين والأدباء والشعراء، من أجل إثبات هويتهم الإيديولوجية والدفاع عن مجموع الأفكار المرتبطة بها… وهنا عن ماذا سيناضل السورياليون؟
لأجل ذلك، نحن مازلنا نبحث عن الذات.
س: ولنتحدث الآن عن سوق الفن بالمغرب وهو لا يتوفر على شروط السوق التشكيلية، كيف تفسرون الإرتفاع المهول لأثمنة بعض الأعمال المغربية، ألا يشكل ذلك ظاهرة شادة…؟
ج: أسواق التشكيل في عالم اليوم، لا ترتبط بحالة الاقتصاد أو السياسة، فهي سوق مفتوحة في وجه المستثمرين ومبيضي الأموال وأصحاب الذوق الرفيع… وهم جميعا لا علاقة لهم بمؤثرات الأزمنة المالية العالمية الراهنة في عالم اليوم، لأسباب عديدة ليس المجال هنا لسردها، الذين يتحكمون اليوم في هذه السوق، يعملون وفق مبدأ العرض والطلب، وبعضهم يعمل وفق مقتضيات التصنيع التجاري للأشكال والفنانين، حيث يوجد اليوم مبدعون على قد المقاس، ومبدعون للنخبة، ومبدعون تحت الطلب… لا بأس من وضع نخبة من المبدعين خارج مقاييس السوق… وحتى خارج مقاييس الثقافة التشكيلية بالآلة السحرية/ الصناعية التي يملكها هذا السوق.
في عالم اليوم مقاييس أسعار اللوحات، لا تتحكم فيها الشروط الموضوعية/ الثقافية للعمل الفني ولصاحبه وهنا مازالت زابونية الآلة السحرية تفرض شروطها وتلك حقيقة لا ريب فيها… وربما لإخلاف حولها!